أحب الكثير من الأبطال والزعماء، وعادة ما أكره أنصارهم ومحبيهم ومريديهم ومشجعيهم ودراويشهم، وهؤلاء الذين يُكرهوننا فى كل شىء جميل.. ربما لأننى لا أتعصب لأى شىء إلا لكراهيتى للتعصب نفسه! بالنسبة لى، العصبية والاستقطاب والجمود من صفات الجاهل.. ومعظم ما يسميه البعض «ثبات على المبدأ» هو فى جوهره تعصب أعمى لا يبرره إلا الجهل المطلق؛ فالمبدأ هو الغاية التى يجب أن تكون والقانون الذى يُستحسن اتباعه، وهو نقطة انطلاق التفكير الإنسانى لوضع إطار حاكم للصواب والخطأ.. ويخلط البعض بشدة بين المبدأ والموقف، فالثانى هو مجرد رد فعل ونتيجة، صريحة أو ضمنية، تنشأ عن مقدمات معلوماتية.. وتتغير المواقف بشكل عام كاستجابة لعملية تواصل، تتولد عنها معلومات جديدة يترتب عليها إعادة التقييم.
تأييد شخص ما أو رفض منتج معين هى مواقف وليست مبادئ، ومن لا يعيد تقييم مواقفه كل فترة، بناءً على معلومات ووقائع، مع الاحتفاظ بمبادئه، هو كائن جامد غير حى لا أمل فى تطوّره. الأمر يشبه إعجابنا ببعض الروايات حين نكون صغاراً، ثم اكتشاف مدى ركاكتها حين نكبر وتزيد معارفنا.
حتى المبادئ ذاتها قد تتعدل أحياناً بفعل صراعها مع بعضها، فمبدأ الوفاء للوطن مثلاً قد يطغى على مبدأ الأمانة؛ فأنت ستقوم، بمنتهى الرضا، بعملية تضليل للعدو أو حتى سرقته، فى إطار عملية تجسّس (مثل نموذج «أحمد الهوان» الشهير بـ«جمعة الشوان»).. وفى المقابل لن تكون فى نظر أهلك كاذباً أو لصاً، بل بطلاً.
وبالعودة لسيرة الزعماء، ففى كل أكتوبر من كل عام، أعيش ذكرى قتل المناضل الأرجنتينى «تشى جيفارا»، والتمثيل بجثته.. أعرف نواياه الطيبة، وأتفهم اختلاف أدوات عصره عن عصرنا، لا أحكم عليه أو أحاكمه خارج إطار ظروفه الموضوعية، ولا أضع حلولاً مبتكرة لمشاكله ارتكازاً على أدوات زمنى أنا.
«جيفارا» ثار فى كوبا وقاتل فى الكونغو ومات فى بوليفيا، هذا هو ملخص حياته، الرجل حرر كوبا ثم ترك مهمة بنائها لرفيقه «فيدل كاسترو» ليذهب محاولاً تحرير الكونغو عبر معاونة حركة «سيمبا» الشيوعية، ولكنه فشل لظروف خارجة عن إرادته، بعدها عرض خدماته على جبهة التحرير الموزمبيقية التى رفضته، ثم ذهب مع خمسين رجلاً سماهم «جيش التحرير الوطنى لبوليفيا» ليحرر تلك البلاد وهناك قُبض عليه وأُعدم، جيفارا لم يشارك فى أى عملية بناء لكنه ثار طوال الوقت، وهو عمل قد يكون عظيماً، وقد يكون أهوج، لكنه بكل تأكيد غير قابل للتكرار، الرجل مات مع تجربته وأدواته.
جيفارا هو الذى قال إن «الحق الذى لا يستند إلى قوة تحميه باطل فى شرع السياسة»، ولكنه لم يذكر لنا شيئاً عن القوة التى لا تستند إلى حق، والتى ستتحول حتماً إلى بلطجة يبتعد عنها الناس، وإن كان الإلحاح الإعلامى المُغرض قد جعل من الثورة مؤامرة ومن الثوار خونة، فبعض هؤلاء أساءوا بالفعل للتجربة المصرية وتاجروا بها وتربحوا منها ولم يكونوا أبرياء طوال الوقت، هذا التشوه الفكرى الذى يحيط بنا، جعلنا نترحم على «آدم سميث» بعد ملاقاة بعض اليساريين، ونشتاق لرؤية «أبولهب» عند التعامل مع بعض الإسلاميين.. توقفوا عن التعصب لأى شىء يرحمكم الله.