تعليقاً على مقالنا المنشور بجريدة «الوطن» يوم الاثنين الموافق 28 أكتوبر الماضى، تحت عنوان «الرؤساء القانونيون»، وردت لى رسالة عبر الواتس آب من الصديق العزيز المستشار الجليل حاتم داوود، نائب رئيس مجلس الدولة، جاء فيها: «أعتقد أن دراسة القانون ثم الاشتغال بأى من المهن القانونية من شأنه أن يكسب الفرد رحابة الصدر وسعة الأفق، لما يتميز به العمل القانونى من اختلاف الرؤى ووجهات النظر، كما يكسبه القدرة على تقييم الأمور بشكل أوسع وأكثر شمولاً. وكما تعلمون، فإن أى مادة قانونية قيل فيها العديد والعديد من النظريات والآراء وكلها تقترب من الصواب، كل ذلك ينعكس على تكوين شخصية رجل القانون بما يجعله مؤهلاً أكثر من غيره لتولى الوظائف السياسية، ولا تنس أن رؤساء الوزارات والوزراء قبل عام 1952 كانوا من خريجى كليات الحقوق».
والواقع أن هذا التعليق القيم يشير إلى زاوية جديدة لعلم القانون، تتعلق بأثر الدراسات القانونية على رجل القانون ذاته، وهو ما يمكن أن نطلق عليه «الدور التربوى للدراسات القانونية»، نعم لقد أسهب البعض فى الكتابة عن دور القانون فى المجتمع، والحاجة إلى القانون لتنظيم علاقات الأفراد بعضهم البعض، وهى علاقات لا يمكن أن تترك فوضى ينظمها كل فرد وفق رغبته ومشيئته، كذلك، تحدث البعض عن «الدور التربوى للقانون»، مؤكداً أن احترام القانون يعلى القيم الاجتماعية والأخلاقية، وأن الالتزام الذاتى بالقوانين المنظمة لحركة المجتمع قيمة أخلاقية فى المجتمعات المتحضرة، فالقوانين لم تشرع لمجرد توقيع الجزاءات على الأفراد المخاطبين بها، وإنما فلسفة العقوبة تكمن فى كونها عامل «ردع» لمنع المخالفة قبل وقوعها، ومحاسبة الجانى وزجره إن ارتكبها حتى لا يكررها هو أو غيره من أفراد المجتمع، ومن ثم تتحول عملية اعتياد الانصياع للقانون إلى عادة وحالة من الفهم للأهداف المرجوة من وراء سن القوانين، وانطلاقاً مما سبق، يمكن القول إن للقانون دوراً تعليمياً تربوياً فى تهذيب سلوكيات الأفراد، وكثيراً ما يكون السبب الأول وراء كثير من السلوكيات السلبية هو عدم وضوح الضوابط القانونية لموضوع ما أو عدم وجود تنظيم قانونى له من الأساس.
وعندما نتحدث عن «الدور التربوى للقانون»، فإن زاوية الحديث تتجه نحو المخاطبين بأحكام القانون، أياً كانت صفاتهم ووظائفهم أو المهن التى يمارسونها. خلافاً لذلك، فإن الحديث عن «الدور التربوى للدراسات القانونية» إنما ينصب على دراسة أثر الدراسات القانونية على رجل القانون ذاته، ومدى التأثير الذى تحدثه هذه الدراسة عليه، فعلى سبيل المثال، ثمة قاعدة قانونية تقول إن «الأصل فى الإنسان البراءة»، وتعبر الدساتير المعاصرة عن هذه القاعدة بعبارة «المتهم برىء حتى تثبت إدانته فى محاكمة قانونية عادلة، تكفل له فيها ضمانات الدفاع عن نفسه» (المادة 96 الفقرة الأولى من الدستور المصرى الحالى لعام 2014م). ونعتقد أن رجل القانون الذى لا يطبق هذه القاعدة فى حياته الشخصية إزاء الوشايات التى قد تصل إليه يكون قد افتقد جزءاً من الدور التربوى للدراسات القانونية، وكان ممن تنطبق عليهم الآية القرآنية الكريمة: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ* كَبُرَ مَقْتًا عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ﴾، وثمة قاعدة تفسيرية قانونية تقول إن «العبرة بالشائع الغالب لا بالنادر»، وهذه القاعدة تتسق مع النص القانونى ذاته، منظوراً إليه باعتباره حكماً عاماً مجرداً، يراعى الشائع والغالب من الأمور، ولا يقف عند الحالات النادرة، ونعتقد أن قاعدة «العبرة بالشائع الغالب لا بالنادر» هى قاعدة سلوكية حياتية بوجه عام، وليست مجرد نص قانونى أو إحدى وسائل الممارسة المهنية. إن الإنسان ينبغى أن يطبق هذه القاعدة فى حياته بوجه عام، فلا يحجم عن إتيان سلوك معين لمجرد وجود احتمال ضئيل بالفشل أو تحقق ضرر ما، وليدرك الإنسان أن ثمة فارقاً هائلاً بين الإقدام والتهور، وإذا كان التردد غير محمود من الإنسان بوجه عام، فإن هذا السلوك منبوذ من رجل القانون بوجه خاص، مع تسليمنا بأن العديد من رجال القانون يسيطر عليهم الخوف فى حياتهم المهنية والشخصية، فقد يرى البعض فى التردد وعدم الإقدام السبيل إلى السلامة من الشبهات ودليلاً وشاهداً على النزاهة والاستقامة. ولذلك، نرى من الملائم التركيز فى دراسة القانون على الدور التربوى له فى خلق الشخصية القوية القادرة على التعامل مع الأمور.
والله من وراء القصد.