فى عدد مجلة «الأستاذ» -لمبدعها ومحرر مادتها المناضل عبدالله النديم- الصادر يوم الثلاثاء ٣٠ أغسطس عام ١٨٩٢، كتب «النديم» تحت عنوان «الحياة الوطنية»:
يزعم كثير من الناس أن الحياة الوطنية هى الجمهرة، أى تجمع الأمة فى مكان متكثرين متضامين، وليس كذلك. فإن وفرة العدد والتجمع لا تغنى شيئاً من الفراغ من العلوم والصنائع الموصلين إلى توسيع دائرة العمران وحفظ الوطن من العاديات، بما ينشأ عن العلوم من احتكاك الأفكار وتبادلها فى تناول بواعث الاختراع والاتباع.
ثم يواصل «النديم» حديثه عن الحياة الوطنية قائلاً:
وحفظ الوحدة الوطنية فى الأجناس القاطبة فى ما يُسمى وطناً بتوحيد القضاء والمعاملة وتمكين الطوائف من إجراء عاداتهم فى مجامعهم ومعابدهم وأعيادهم كل بما هو حق فى معتقده، جميل فى عادته، بلا حجر ولا تضييق وإطلاق حرية الإنشاء والمطبوعات إلى حد لا يبلغ تشويش الأفكار، ولا المطاعن الدينية، ولا الأهاجى الشخصية.
طويلة هى مقالة «النديم» عن الحياة الوطنية فى هذا العدد من مجلة «الأستاذ»، ويكشف ما ورد فيها من أفكار، وما تضمّنتها من مفردات عن حالة المجتمع المصرى ساعة كتابتها أواخر القرن التاسع عشر، وبعد نحو عشر سنوات من وقوع مصر تحت نير الاحتلال البريطانى، وهى السنوات التى شهدت الطرق بقوة على رأس الوطن، بحثاً عن سؤال النهضة، وكيفية تحقيقها، والتقدّم وسبل بلوغه. والمقالة يمكن اعتبارها نموذجاً للأدب السياسى فى هذا العصر، وهى بمفردات عصرنا تمثل تعبيراً دقيقاً عن أسس المواطنة وحرية العقيدة من جانب، وكذلك حرية الرأى والتعبير والحقوق الاقتصادية والاجتماعية من جانب آخر، فضلاً عن دور العلم كرافعة أساسية لنهضة الأمم. وهذه الأفكار تمثّل البنية الأساسية لأى مجتمع يبحث عن طريقه الصحيح نحو الحكم الرشيد. لم تتطرّق المقالة لنموذج حكم محدد، ولم تطرح تصوراً متكاملاً لنظام الحكم، لكنها وكغيرها من كتابات مفكرى هذا العصر ومناضليه تعبّر عن جانب من الجوانب الحيوية الفكرية، التى كانت تشهدها مصر فى ظل صراع التيارات الثلاثة «تيار التغريب - الانكفاء على الذات - تيار التوازن بين الأصالة والمعاصرة».
والباحث فى تاريخ تطور النظام السياسى المصرى فى العصر الحديث يكتشف -دون عظيم جهد- تداخل مجموعة من العوامل، تولت العلاقة الجدلية المتواصلة بينها وضع الإطار الحاكم لتطور النظام السياسى المصرى وإن اختلفت طرق التعبير عنها من مرحلة إلى أخرى. من بين هذه العوامل دور الجيش فى الحكم، ودور الشخصية التاريخية الملهمة أو ما يُعرف بالزعامة الكاريزمية، وكذلك دور العائلات الإقطاعية والرأسمالية، والعلاقات الشخصية بين أعضاء النُّخب الحاكمة وآثارها على المستويات الاقتصادية والاجتماعية، إضافة إلى دور المؤسسات السياسية، سواء فى الحقبة التعدّدية أو حقبة التنظيم السياسى الواحد، أو حقبة التعدّدية المقيّدة، هذا إلى جانب دور الجهاز الإدارى للدولة وتطور البيروقراطية المهيمنة على مؤسسات الدولة بمختلف مستوياتها.
وإلى جانب تلك العوامل متداخلة التأثير، فهناك سؤال مهم تعبد الإجابة عنه الطريق أمام فهم تطور النظام السياسى المصرى، ومن ثم تسهم فى تلمس الخطى الوطنية على طريق تأسيس نظام حكم يعبر عن المصريين جميعاً، ويتصدى لما يواجهونه من تحديات.
والسؤال هو: مَن يتّخذ القرار السياسى فى مصر؟
سيكون من السهل الإجابة عن هذا السؤال بالقول: إن الخديو أو السلطان أو الملك أو رئيس الجمهورية هو من يتّخذ القرار السياسى فى مصر، وهى إجابة متسرّعة ولا تعبّر عن حقيقة ما كان، وبالطبع لن تعبر عن طبيعة ما سيكون.
إذ إن الإجابة على هذا النحو تختزل مجمل التفاعلات السياسية والاقتصادية والاجتماعية فى إطار ضيق محكوم بالقرار الذى يصدره رأس النظام منذ المرحلة التكوينية للنظام السياسى المصرى مع بداية حكم محمد على، والإجابة على هذا النحو أيضاً لا تشمل العلاقة بين الدولة والمجتمع، أو بمعنى آخر العلاقة بين مؤسسات الدولة والنظام السياسى من ناحية، والقوى الاجتماعية وتفاعلاتها من ناحية أخرى.
بطريقة أخرى، حتى نتمكن من الإجابة عن سؤال من يتخذ القرار السياسى، علينا أن نفهم جيداً طبيعة التفاعلات بين القوى الاجتماعية والاقتصادية، التى كانت سائدة وقت اتخاذ القرار، وكيف تعبّر تلك القوى عن نفسها؟ وكيف تدافع عن مصالحها؟ وكيف تؤثر فى القرار الصادر من رأس السلطة؟
النظام الاجتماعى المصرى قبل الحملة الفرنسية على سبيل المثال كان يقوم على الطوائف «النجارين، النحاسين.. إلخ»، ثم تطور الأمر بظهور الأحزاب، وفى مقدمتها حزب الوفد والشبكات التنظيمية التى ارتبطت بقيامه، وكذلك الحال مع الحركات اليسارية وما صاحبها من ظهور دور فعال للنقابات المهنية والعمالية وعلاقتها بالأحزاب من اليمين واليسار، وكذلك ظهور حركة «الإخوان المسلمون»، وما أسسته من تنظيمات اقتصادية واجتماعية. إن فهم طبيعة النظام السياسى ومدى ملاءمته لمجتمع ما فى مرحلة ما ترتبط ارتباطاً وثيقاً بفهم شبكة العلاقات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية السائدة، وترتبط كذلك بالنسق القيمى الحاكم لتوجهات المجتمع فى العلاقات بين أفراده وعلاقته بالطبقة الحاكمة.