لم أكن أعلم الكثير عن تلك الكيانات العجيبة التى تملأ ربوع الوطن إلا بعد أن وجدتها تبكى وهى تسعى أن أساعدها فى مشكلتها التى تعانى منها منذ أكثر من خمسة أعوام دون جدوى..!
إنها فتاة بسيطة من إحدى قرى محافظتى الصعيدية الهادئة.. ظروفها المادية دفعتها للخروج للعمل فى سن مبكرة.. ولكنها لم تجد عملاً بمؤهلها المتوسط شأنها شأن معظم خريجى الدبلومات فى مصر.. بحثت كثيراً فى كل المجالات.. وتنقلت فى العديد من الوظائف المؤقتة التى لم تتمكن من الاحتفاظ بإحداها قط.. فلم تكن تحمل أى ميزة تجعلها مؤهلة للاحتفاظ بعمل محدد.. حتى وقعت فى يدها تلك الورقة اللامعة التى ظنت أنها تحمل الحل لكل مشكلاتها..!
لقد كان ذلك الإعلان الذى يوزع بكثافة فى مدخل قريتها يحمل معظم أحلامها فى عمل منتظم محترم.. والأكثر من الوعود التى جعلتها تشعر أن المستقبل ربما يحمل لها أفضل مما تعانى منه فى ذلك الوقت.. كان إعلاناً عن معهد «خاص» لتعليم التمريض والإسعافات الأولية.. هكذا كتب فى مقدمته بخط عريض.. كما كتب بشكل واضح أنه معتمد من وزارة الصحة.. وأنه يمنح شهادة تفيد بصلاحية الخريج للعمل بالمستشفيات العامة والخاصة..!
لم تكن مصروفاته مرتفعة بالمقارنة بغيره.. ولكنها كانت مشكلة بالنسبة لها.. مشكلة جعلتها تقترض لتتمكن من الالتحاق به لعامين كاملين.. خرجت بعدهما تحمل شهادة تفترض أنها تفيد بأنها ممرضة!!
الأزمة بدأت حين حاولت الالتحاق بمستشفى عام بعقد.. لتفاجأ بضرورة الحصول على تصريح لمزاولة المهنة أولاً.. الأمر الذى اكتشفت أنه فى عداد المستحيلات لعدم اعتماد المعهد من أى جهة من الأساس!!
أعوام مرت على تلك الفتاة وهى تحاول العمل كممرضة فى أماكن كثيرة دون جدوى.. الأمر الذى اضطرها للعمل بشكل غير رسمى فى مستشفيات خاصة.. ولكن بمرتب ضعيف للغاية على اعتبار أنها لا تحمل ما يؤهلها للعمل!!
أكثر من شكوى قدمتها.. وأكثر من دعوى قضائية رفعتها تختصم فيها وزارة التعليم العالى ووزارة الصحة والمعهد المزعوم لتمكينها من الحصول على تصريح لمزاولة المهنة.. أو على أضعف تقدير للالتحاق بمعهد معتمد استناداً لموقفها دون جدوى..!
المشكلة أننا نعانى من أزمة حقيقية فى أعداد التمريض فى مصر منذ فترة ليست بالقصيرة.. فضلاً عن أزمة توافر تمريض «مؤهل» يدرك أبعاد عمله بشكل جيد.. ويستطيع التعامل مع متطلباته الوظيفية الفنية بشكل مناسب.. فلا توفر كليات التمريض الحالية العدد الكافى للتمريض المؤهل المدرب.. ولا تتمكن المعاهد الحكومية أيضاً من سد احتياجات سوق العمل من التمريض ذاته.. الأمر الذى كان سبباً مباشراً فى رأيى ليستغله البعض ويبيع الوهم.. ويتلاعب بأحلام البسطاء تحت مسميات وهمية وكيانات غير شرعية.. والكارثة أن منتجهم غير مؤهل بالفعل.. وفى أغلب الأحيان يتسبب فى مشكلات لا حصر لها.. ومضاعفات كثيرة للمرضى.. دون أن يتحمل الممرض أى مسئولية فيها باعتباره يعمل بشكل غير قانونى من الأساس!!
أعتقد أن رقابة أكثر صرامة من وزارة الصحة ينبغى أن يتم تفعيلها.. وخطة أكثر طموحاً لفتح معاهد متخصصة معتمدة يمكنها أن تضخ فى سوق العمل تمريضاً مدرباً ينبغى أن توضع فى الحسبان.. على أن تتم دراسة ضم خريجى تلك المعاهد إليها لحل مشكلتهم.. التى وقعوا فيها بسبب ورقة لامعة!!