التعبيرات عن سيدنا عيسى «شُبِّه لهم»، ثم «رفعه الله إليه»، ثم «وما قتلوه يقيناً»، أى إنه ضُرب بالسيف واعتقد القتلة أنه مات، ولكنه سار مجروحاً دامياً، وقد يكون هذا مسيره فى طريق الآلام، مما يؤكد صحة الروايات القبطية، ولكن هناك الآية «إنى متوفيك»، ثم «فلما توفيتنى كنت أنت الرقيب عليهم»، فالحديث مع عيسى هنا وهو متوفى يعيدنا مرة أخرى إلى دوام النفس التى لا تموت، وإنما تُتوفى. والتعبير المسيحى هنا أدق حينما يستخدمون كلمة انتقل إلى السموات فلان أو فلانة، بمعنى الوفاة، والوفاة هى وفاء مدة ووقت العمر للإنسان على الأرض الدنيا لننتقل إلى أرض الآخرة. والغريب أن الإنجيل يتحدث عن سيدنا عيسى بأنه ابن الإنسان، ويؤكد فى واقعة قتله أن ابن الإنسان، أى عيسى، سيرحل ويترككم، ويفتح حواراً لن يغلق: هل مات كما نموت وترك جسده، أم انتقل بجسده إلى السماء، ولمَ لا وقد فعلها آدم من قبل ومحمد من بعد! سورة آل عمران آية 55: (إِذْ قَالَ اللهُ يَا عِيسَى إِنِّى مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلىَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُواْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ثُمَّ إِلَىَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ)، سورة المائدة، آية 117: (مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلاَّ مَا أَمَرْتَنِى بِهِ أَنِ اعْبُدُواْ اللهَ رَبِّى وَرَبَّكُمْ وَكُنتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً مَّا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِى كُنتَ أَنتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ).
من هذه الآيات تتضح رحلة الصعود والهبوط بين السماء والأرض، فكلمة «رافعك إلىَّ» واضحة أنه رُفع بجسده ونفسه للسماء. وكما أوضحنا سابقاً أن القانون الإلهى أن يبقى الجسد فى تراب الأرض وتصعد النفس إلى عالم الأبدية ما بعد السموات والأرضين والكون كله، حيث عالم ما بعد المادة. وهنا لا نتوقف عند واقعة محاولة القتل لسيدنا عيسى، فقد وقعت، ولكن الموت من عدمه هو سر الخلاف بين بعض المذاهب الدينية، فالتفسير الإسلامى أنه رُفع بجسده ونفسه، والتفسير المسيحى أن الجسد قُتل وعلامات الدم على الصليب وعلى الملابس، وأن الاختلاط بين الخلق الوحيد لكائن وحيد بلا أب بشرى من طين هذه الأرض وحضور ملائكى هو الذى جعل العقول تكاد تجن وتتشتت، وهم معذورون من صدمة المعجزة وشدة المفاجأة الغريبة على ما جُبل عليه البشر. وهنا التوقف عند طبيعة خلق عيسى ضرورة، والتدبر فى مصير عيسى واجب، فهو مزيد من الخضوع لله الواحد الأحد لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفواً أحد. ومعنى الوفاة أى إتمام الفترة الزمنية المسموح بها للبشر للبقاء على الأرض، ومعنى الموت انتقال النفس والروح معاً إلى السماء، ويبقى البدن فى الأرض، آية «فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً»، ثم تسير الروح إلى مخزون الحفظ لدى خالقها، لا تحاسب، وتسير النفس إلى مصيرها إما جنة وإما جهنم. والمتفق عليه أن عيسى أتم مدته على الأرض فوفى عمره الأرضى، والمختلف عليه هل صعد ببدنه إلى السماء، يقول المسلمون نعم، وإذا لم يصعد فأين جسده! ومعنى حديث الرسول صلى الله عليه وسلم بعودته إلى الأرض أنه رُفع حياً إلى السماء ببدنه ونفسه وروحه، وبذلك سيكون أطول الكائنات البشرية عمراً منذ خلقه ومروراً برفعه ثم عودته لينشر الدين الصحيح بين البشر. وللحديث بقيه فى المقال القادم بإذن الله.