لم اكتب «عنها».. ولا مرة..
مع أنها لم ولن تغادرنى.. قبل أن «أكون».. كمنت فيها.. وكمنت فى.. ومع ذلك لم أقوَ لحظة على ملامسة تخوم منحها الفياض.
عجزت بنفس منطق العجز عن وصف «شربة الماء».. أو الفشل فى وصف لحظة دخول الهواء إلى كل حدود الرئة.. لم أكتب «عنها».. تماماً، كما لم أدرك بالضبط الفاصل بين الشهيق والزفير، وأين تقف حدود النفس المريح. لم أكتب «عنها» ولا مرة.. مع أنها كانت داخل كل حرف كتبته.. تصور حضوراً متواصلاً فى أحرف عمرها جاوز العقود الستة بعامين.. كم حرفاً كتبته أنا، منذ أمسكت «هى» بأصابعى ضاغطة بحنو بأطرافها، عند موطئ بدا منه القلم الرصاص مبرياً ناعماً.. بسم الله.. «يا الله.. يا دودو»، هكذا وعيت عليها تنادينى بـ«دودو» كانت قد كتبت بالنقاط، اسمى، وطلبت أن أسير بالقلم فوق هذه النقاط، لنرَ معاً الاسم مكتوباً.. كم كان عمرى لما أمسكت أمى بأناملى وعبّرت بى، حيث بدأت «إلى عوالم النور»... كان ذلك قبل أن تأخذنى إلى أول يوم «مدرسة».. إلى مدرسة راهبات «العائلة المقدسة».. تلقت أمى تعليمها بمدرسة «الأقباط»، بالمنصورة، أكسبها ذلك العربية والإنجليزية، وبراعة فى شغل الإبرة والتريكو، واختارت لى مدرسة لـ«الراهبات».. سوت فرق شعرى من المنتصف بمنتهى الدقة، بمشط دقيق، حتى لا يعوج ولا تفلت «شعرة» من موضعها حيثما يجب أن تكون.. مشّطته بفرشاة ناعمة.. جدلت الضفيرتين وانتهت بهما إلى الثلث الأخير، حيث يبدأ تضفير الشرائط المنتهية بـ«الفيونكات».. كانت مغرمة بالفيونكات.. تتبارى مع نفسها فى شكل وحجم ولون شرائط شعرى.. المكوية دوماً، وممكن المنشاة، بنشا خفيف حتى لا تترهل.. تنثر «الفيونكات» فى فساتينى التى تصمّمها.. وتحيكها على ماكينتها «سنجر» وبدون «باترون».. وتلك هى المعجزة التى ظللت أفكر فيها طول عمرى.. فقط تاخد المقاس. تهواها على الكتفين فى فساتين الصيف الزاهية.. تضم كل كتف بشريط ينتهى بفيونكة تتطاير أطرافها مع نسمات العصارى.. أو بحمالات عرض إصبعين وقصة تحت صدر مشغول بطريقة «عش النمل».. بوسط وكلوش كلما كان واسعاً، سعدت هى، وتُهت أنا خيلاء، أو بجونلة منفوخة، لأن تحتها «جيبون» منشاة، ثلاث قصات، ثلاث دوائر تنتهى على واسع تربط فى ما بينها أشرطة الركامة المفرغة على شكل وردات.. هناك علامات فى الذاكرة.. بالذات فستان «عيد» فطر بعينه.. كاروه كحلى فى الأحمر والأبيض.. كانت حاملاً فى أخى الأصغر وعلى وشك الولادة.. أواخر رمضان.. أعدّت «العجمية»، حشوها المفضل لكحك العيد، من العسل الأبيض والسمسم.. لم تكن تسمح لمن يساعد فى البيت بأن يمد يده فى ما نأكل.. وزعت الأيام.. يوم كحك، تنقشه واحدة واحدة.. لا تعترف إلا بالنقش، مع أنه حتى فى ذلك الوقت كانت هناك قوالب، يوضع فيها العجين، ثم تقلب.. لا تحب الكحكة الصغيرة، ولا مشوهة الاستدارة.. هناك يوم بسكويت وغُريبة.. بسكويت النشادر وبسكويت الشيكولاتة والغُريبة باللوز.. بعد الإفطار يتم تحضير العجين.. وبعد السحور تبدأ هى، تصل الليل بالنهار، نستيقظ فإذا بالصاجات السوداء مرصوص فوقها الكحك، فى انتظار مجىء من سيحملونها إلى الفرن.. راحت ترتب أيام ما قبل العيد وقد اقتربت ساعة الولادة، أيام الكحك، وأيام ترتيب البيت ليكون جاهزاً للعيد.. السمك المنتظر أن يكون غذاء العيد.. كنت فى السادسة من عمرى، وعيتها تغمض عينيها وهى تقيس لى بروفة فستان هذا العيد المشهود.. لم يكن باقياً إلا بضعة رتوش.. شريط دانتيل، متنية، يرتفع قليلاً إلى الرقبة بثنيات تقربه من أثواب الأميرات، وكورنيش عريض قبل الذيل بشبر على الأقل، وعند الظهر تتراص أزرار صغيرة جنباً إلى جنب دون فواصل.. لم تكن ترسل أثوابى إلى المشغل المجاور لفتح «العراوى».. ولا أعرف كيف كانت تستطيع عمل «عراوى» الأزرار، يدوياً قبيل هذا العيد، ولد أخى الأصغر فى «ليلة القدر».. لم تعلن لأحد أنها على وشك الولادة إلا بعد أن أنهت تفصيل فستانى وكوته وارتديته أنا، ارتديته وقد انتهت كل اللمسات، ودخلت به على أبى.. لا أنسى ضمّات شفتيها، وتغميضة عينيها التى لم تكن إلا صدى لـموجات «وجع ألم» لم أدرك كنهها إلا بعد أن كبرت.. إصرارها أن تتم حياكة «فستان العيد»، حتى آخر شريط دانتيل، وهى تكاد تتمزّق ألماً.. كانت هذه «هى».. أمى.. «هنية» تحيك فساتينى وجلابيب أبى وطاقياته، البيتية، كل جلباب وطاقيته.. لم يكن يحب البيجامات.. تغزل على الأقل ست سبع بلوفرات تريكو سنوياً، لكل واحد منا واحد على الأقل، لكنها تشتغلها بخيط «مجوز»، أو «دوبل» لتضمن الدفء.. لا تلقى ببلوفرات الأعوام الماضية، تفكها وتعيد إدخال خيوطها مع خيوط وألوان جديدة. يعود ظهراً حاملاً الأكياس.. يبادر بالسلام والسؤال.. أما السلام فمستهله عبارته الأثيرة «وليسعك بيتك».. كأنه عائد من سفر لمستقر.. بأن خرج لأى مشوار صباحاً.. مساءً، لا بد من الكلمتين: «وليسعك بيتك».. وأما السؤال الخاص، فهو عما أعدته «هنية»، وهذا كان اسمها، الذى كان يضيف هو له صفة «البهية»، حين تفاجئه بالذات، بأطباق الأرز باللبن، مصفوفة فوق رخام المطبخ! الأسبوع القادم عن حضورها المعبّق برائحة الفانيليا!