الدولة الفاعلة هى نقيض ما يُعرف بالدولة الفاشلة، التى تنهار فيها المؤسسات ولا تقوم بوظائفها، ومن ثَم تتعرض الدولة للعديد من الأزمات اليومية إلى أن تصل إلى ارتباك ثم فوضى عارمة ثم سقوط. المعروف أن وظائف مؤسسات الدولة تقوم على حماية منظومة القيم التى يرتضيها المواطنون فى حاضرهم ولمستقبلهم، وثانياً وحماية البلاد من التهديدات والعدوان الخارجى وتحقيق الأمن والاستقرار، وثالثاً تنمية الموارد وحسن استغلالها لصالح المواطنين كافة. فى الأبعاد الثلاثة يكون الإنسان هو المحور الرئيسى لأى مؤسسة من مؤسسات الدولة، وحين يشعر المواطن ويلمس بيديه حرص المؤسسات على حمايته وتنميته وحفظ كرامته، يتحقق الهدف الأسمى وهو أن الدولة فاعلة وكفؤ. والعكس صحيح.
شِق مهم من فاعلية أية دولة يكمن فى الثقة المتبادلة بين المواطن وبين المؤسسات، وحين تختفى هذه الثقة أو تقل أو تشوبها شوائب بين الحين والآخر، تظهر حركات الاحتجاج والتمرد على النظام العام، وهنا إما تتم معالجة شوائب عدم الثقة وفقاً لآليات شفافة، أو تزداد إلى مستوى يستحيل علاجه، ومن ثم ينحدر النظام إلى درجة الفشل. وهذه السيرورة لا تتعلق بنظام ديمقراطى أو ليبرالى أو اشتراكى أو علمانى أو أية صفة أخرى متداولة للتفرقة بين نظم الحكم وطبائعها، بل بالجميع ودون استثناء. ففاعلية الدولة تظل مرتبطة بحسن الوظائف وحسن استغلال الموارد مهما كانت محدودة، والثقة والقدرة على معالجة شوائبها أولاً بأول، ومن ثم تحقيق رضاء المواطنين وتمسكهم بمجمل النظام القائم.
لو وضعنا فى الاعتبار مثل هذه المعادلة مادياً ومعنوياً، يصبح من السهل علينا التعرف على كيفية احتواء وباء كورونا ومنع تفشيه إلى حد الجائحة. ويصبح علينا أيضاً الخروج من هذا الجدل العقيم الذى يثيره البعض حول لوم الصين باعتبارها مصدر الفيروس وأنها لم تتعامل معه بجدية منذ ظهوره فى نهاية ديسمبر الماضى، حين تم التحذير من ظهوره وخطورته، وبالتالى فهى مسئولة معنوياً عن تلك الجائحة ونتائجها الهائلة مادياً وإنسانياً. ولا يختلف هذا الموقف من حيث جوهره مع تعامل الدول الكبرى الأكثر تقدماً اقتصادياً، كالولايات المتحدة وبريطانيا وإيطاليا وإسبانيا، حين تبين بصورة جلية مخاطر هذا الفيروس الغامض، وكان التجاهل هو سيد الموقف واعتبرت نفسها محصنة، ولا يمكن لهذا الكائن الصينى أن يفُت فى عضدها، وبالتالى فلا داعى لاتخاذ خطوات للوقاية من الفيروس. كما ظلت الحياة تجرى بصورتها المعتادة إيماناً بأن الغرب المتفوق يقهر تلك الأمراض الخبيثة. مثل هذه الثقة الزائدة مصحوبة بعدم اتخاذ الإجراءات الاحترازية المناسبة تعد مسئولة عن تفشى المرض فى تلك الدول بمعدلات فاقت المعدلات التى مرت بها الصين حتى فى ذروة تفشى المرض.
إذاً تجاهُل الصين فى المراحل الأولى لظهور المرض هو نفسه تجاهل الدول الكبرى، مع فارق كبير، أن الصين وبعد تحذيرات منظمة الصحة العالمية بدأت إجراءاتها الفعالة وتعاملت مع الأمر بحزم وحسم، وفى الآن نفسه تجاوب المواطنون بكل رضاء مع تلك الإجراءات مهما كانت قاسية. هنا بدأت مبادئ الدولة الفاعلة فى التطبيق على أرض الواقع. يدعمها قطعاً طبيعة النظام الصينى نفسه حيث هيمنة الحزب الشيوعى الصينى على أداء الدولة والمجتمع، والتزام المواطنين نتيجة الثقة فى أن تلك الإجراءات تصب فى مصلحتهم، أو ربما اعتياد الانصياع لكلمة الدولة أو الاثنين معا. وهو ما قدم نموذجاً عملياً لما يعرف بالضبط المجتمعى الذاتى طواعية، والذى يعكس الثقة فى قرارات الدولة وكونها تحقق مصلحة عامة. وكذلك التزام شركات الأدوية الصينية بالتعاون معاً وفقاً لتوجيهات الحكومة لإيجاد علاج فى أسرع وقت ممكن، والتعاون فى التوصل إلى لقاح فى مدى زمنى قصير نسبياً. ولا ننسَ الدور الكبير الذى لعبته تطبيقات التواصل الاجتماعى والتطبيقات التى أبدعتها شركات صينية عملاقة للتعرف الفورى على المشتبه بحملهم الفيروس، ومن ثم رسم خريطة واقعية ومفصلة عن انتشار المرض أولاً بأول والتعامل معها قبل أن ينتشر الوباء. وأيضاً اتخاذ حزمة من الإجراءات المالية والاقتصادية لمعالجة الآثار الناتجة عن توقف المصانع وقلة الإنتاج وتراجع التصدير.
لم يحدث الأمر فى الدول الديمقراطية على هذا النحو، لم نسمع عن تعاون شركات التكنولوجيا وشركات التواصل الاجتماعى الأوروبية والأمريكية على إبداع تطبيقات تفيد فى محاصرة الوباء، أو حتى الاستفادة من التجربة الصينية فى هذا السياق، ولم نسمع عن تعاون معامل وشركات الأدوية، بل عن منافسة شرسة بين عمالقة صناعة الأدوية الغربية من أجل الفوز بإنتاج لقاح يدر مئات المليارات، فى تحرُّك يجسد غياب المسئولية المجتمعية لتلك الشركات حتى تجاه مواطنيهم، وقد نستثنى إحدى الشركات الألمانية التى أراد الرئيس ترامب احتكار ما قد تتوصل إليه من لقاح قريباً، لكن صاحب الشركة مدعوماً بموقف الحكومة الألمانية رفض ذلك الطلب اللاإنسانى.
تعامل الدول الغربية المتقدمة اقتصادياً أظهر عيوب الأنظمة الصحية العامة فيها، وغلبة مفهوم الربح على القطاع الطبى الخاص. فى حين لم نسمع فى الصين عن التفرقة فى العلاج بين المرضى الأصغر سناً والأكبر سناً، فقد حدث الأمر بكل بجاحة فى بلدان أوروبية وفى الولايات المتحدة. حتى خدمة الإسعاف لا بد أن تُدفع مقدماً أياً كانت حالة المريض. البعض هنا جادل فى أن الحرية التى اعتاد عليها الغربيون والأمريكيون كانت هى العامل الأساسى وراء عدم الانصياع الجمعى للتحذيرات والمطالبات التى خرجت عن الحكومات للمواطنين للبقاء فى منازلهم خوفاً من العدوى. وهذه لا علاقة لها بمبدأ الحرية فى حد ذاتها، بل بعدم الثقة فى القرارات الحكومية، وبالتعامل السطحى للإعلام الغربى مع احتمالات انتشار الفيروس لديهم، نتيجة ثقة زائفة بالتفوق وأن ما حدث فى الصين يخصها فقط، رغم تحذيرات الصحة العالمية، ما تسبب فى شيوع اللامبالاة فى السلوك المجتمعى. وبالتالى تعرض الجميع، سواء من فى السلطة أو الأفراد العاديين، لمصائب أظهرت عيوب النظام وفشل الدولة.
هذا الفشل فى معالجة وباء جامح لا يعنى بالضرورة انهيار فكرة النظام الديمقراطى، ولكنه يعكس الكثير من عيوبه التى ستفرض تعديلات فى أداء النظام بعد الخروج من هذه المحنة. ولا يعنى بالمقابل تفوق النموذج الصينى بالمطلق، ولكنه يعكس نجاحه الفائق فى السيطرة على الوباء، وأيضاً يظهر الكثير من أدوات الهيمنة على السلوك العام، والتى لا تكون مقبولة فى ظل ظروف طبيعية عادية يسعى الإنسان العادى فيها للحياة بقدر من الحرية والكرامة.