يفصل فيروس كورونا بين أمريكا وأوروبا أكثر مما يفصل المحيط الأطلسى. حلّت «الحدود الكورونيّة» محل الحدود الجغرافية. فباعدت بين ضفتى المحيط، ثم سرعان ما باعدت بين دول الضفة الشرقية، فأصبحت أوروبا ضد أوروبا.
لقد كان المقطع الذى قامت بتصويره «فتاة إيطالية» بعنوان «نحن الإيطاليون» توصيفاً لما يجرى. فبعد أن كان الخطاب لسنوات طويلة «نحن الأوروبيون» أصبح «نحن الإيطاليون» و«نحن البريطانيون» و«نحن الفرنسيون».. وقبل سنوات ثلاث كان الرئيس ترامب قد سبق بالقول «نحن الأمريكيون».
لجأ الإيطاليون إلى «معايرة» أوروبا والمكايدة الحضارية لها.. فبعد أن فشلت أوروبا فى دعم إيطاليا، وبلغ الحنق الإيطالى مدى بعيداً، قال رئيس حزب رابطة الشمال: طلبنا المساعدة فتلقينا لطمة، والمساعدة الوحيدة التى جاءتنا من أوروبا.. هى المساعدة فى انهيار البورصة!
عادَ البعض إلى أمجاد الأجداد وأجداد الأجداد فى استعراض تاريخى لما كان لإيطاليا من فضل، وما كان لأوروبا من غدر. جاءت المعايرة فى رسالة «نحن الإيطاليون» على النحو التالى:
1- نحن من بنى لكم الطرقات والمدارس، ونحن من علمكم الأبجدية التى تستعملونها، ونحن من علمناكم القانون وإدارة الدولة.
2- نحن أصحاب الأعمال الفنية العظيمة التى تمتلئ بها متاحفكم. نحن من قدم لكم الحضارة، وأنتم من أخذتم حضارتنا وذهبتم بها إلى العصور الوسطى المظلمة، ونحن من استطاع إعادة الحضارة من جديد.
3- لولا الإيطاليون لكان السيد دونالد ترامب فى أرض أجداده يعانى الجوع، ولولا عَلَم إيطاليا على سفن بريطانيا، لما تمكنت السفن من الإبحار وبناء الثروة والإمبراطورية.
4- نحن الإيطاليون.. منّا «ميوتشى» يجب أن تتذكروه عند استخدام الهاتف، ومنّا «ماركونى» تذكَّروه عند الاستماع أو المشاهدة للراديو أو التليفزيون.. ومنّا أيضاً: كريستوفر كولومبوس وماركو بولو.. ليوناردو دافنشى ومايكل أنجلو، ودانتى وجاليليو.
5- إنكم تستهدفون أصحاب الحضارات. دمرتم اليونان بسياساتكم المالية، وتحاولون مع إيطاليا. لقد أظهرت أنانيتكم حجمكم الصغير. الإيطاليون أصل الغرب، يجب أن تحنوا رؤوسكم لاسم إيطاليا.
سيظل ذلك النص مؤثراً لزمن طويل يتجاوز الأزمة الكورونيّة. ذلك أن إيطاليا تواجه الأسوأ منذ الحرب العالمية الثانية، ثم إنها نظرت إلى أوروبا فلم تجدها.
لا يرى الأوروبيون أن بإمكانهم فعل شىء، ذلك أن المأساة قد عصفت بالجميع وفى لحظة واحدة. كما أن الضفة الغربية من المحيط قد أصبحت فى وضع سيئ للغاية، حالة طوارئ واستدعاء للاحتياط. إن أمريكا التى كانت موضع إبهار العالم لقرنٍ كامل من الزمان، قد فقدت الكثير من هيبتها أمام أنصارها قبل خصومها. ولقد كان مشهد ممرضات مانهاتن وهنّ يرتدين أقنعة من أكياس البلاستيك مشهداً ضاغطاً على صورة القوة الأمريكية.. ضغطاً شديداً.
وحسب تعبير الأكاديمى المغربى عبدالرحيم العلام الأستاذ فى جامعة القاضى عياض فى مراكش: «كنا نعوّل على أمريكا فى إنقاذ العالم من غزو فضائى». إنّ سويسرا ليست لديها هى الأخرى عدد كافٍ من الأسرّة، وقد تلجأ ألمانيا إلى الفنادق. بينما تتسابق شعوب الغرب من أجل ورق المرحاض!
فى شرق العالم.. كانت الصين حاضرة للمساعدة، ولإرباك الشرق الأطلسى على نحوٍ غير مسبوق. راحت مساعدات الصين وصادراتها تتوالى على إيطاليا، وإسبانيا، وعلى فرنسا وصربيا ودول شرق أوروبا. وعلى الرغم مما نشرته الصحف عن عطب بعض الأجهزة الصينية، فإن كثيرين فى أوروبا لا يزالون يرون أن الصين كانت أقرب من أمريكا فى الحركة وفى محاولات الإنقاذ.
لقد كانت روسيا هى الأخرى حاضرة على طريقتها، وبينما زار الرئيس الصينى مدينة ووهان من دون أقنعة طبية، زار الرئيس الروسى مستشفى لمصابى «كورونا» مرتدياً أقنعة روسية مهيبة. ثم إن موسكو راحت تساعد هى الأخرى فى أوروبا.. إلى جوار الصين، وفى غياب أمريكا.
لم ينتهِ المشهد بعد.. لم يتبلور هيكل القوة والضعف، أو حسابات التحالف والخصام. لقد غطّى المضارع المؤلم على تراث الماضى ورؤية المستقبل. إنّ جائحة كورونا تشبه «بروفة» مصغرة لحرب بيولوجية، ورغم أنها ليست حرباً فإنها ستعطى نتائج الحرب. المرضى سيتعثرون طويلاً، والأصحاء سيكتبون التاريخ.