لفتتنى الخطوة المحترمة التى اتخذها الرئيس عبدالفتاح السيسى بإصدار حزمة قرارات تحفيزية للأطباء، وأتوقع أن تحتضن الأيام القادمة قرارات تحفيزية أيضاً شبيهة لقطاع التمريض، الذى يقف هو الآخر على خط المواجهة مع فيروس كورونا. ما لفتنى فى هذه الخطوة هو الانتباه إلى أهمية الدور الذى يقوم به واحد من أهم القطاعات التكنوقراطية فى مصر، وهو قطاع الأطباء. الطبيب فى مصر يمر برحلة طويلة يحلم فيها صغيراً بدخول كلية الطب التى تتطلب مجموعاً فلكياً فى الثانوية العامة، ثم يقضى سنوات أكثر من غيره من الطلاب المناظرين فى كليات أخرى فى الدراسة والتعليم، ومطلوب منه أن يحصل على درجة الماجستير فى أقل تقدير حتى يتمكن من التخصص فى قطاع طبى معين، بعدها يدخل سوق العمل عبر وزارة الصحة أو فى العيادات والمستشفيات الخاصة. قليل من الأطباء يحققون دخلاً كبيراً عبر العمل الخاص -تبعاً لما يتاح لهم من فرص- وثمة أغلبية تتباين فى توزيعها على المواقع المختلفة للخريطة الاقتصادية للطبقة الوسطى.
لسنين طويلة يحصل الأطباء فى مصر على بدل عدوى يعد بالجنيهات المفردة، رغم ما تحمله مهنتهم من مخاطر، صرخوا كثيراً بضرورة النظر فى حالهم وتعديل أوضاعهم، دون أن يتفهم أحد مشكلتهم أو ينظر فى أزمتهم، حتى زحف فيروس كورونا على العالم. فى دول العالم المختلفة أخلصت نسبة كبيرة من الأطباء فى مواجهة المرض ومحاولة إنقاذ الأرواح البشرية وسقط منهم شهداء عدوى الفيروس. نماذج مضيئة بإنسانيتها رأيناها فى إيطاليا وإسبانيا وغيرهما من الدول الأوروبية عبر تقارير إعلامية متنوعة. وهنا فى مصر وبمجرد الإعلان عن ظهور حالات إصابة بكورونا فى البلاد بدأت الأعين تشخص إلى الأطباء وأحوال الطب وأوضاع المستشفيات. فلا تفكير أمام المرض إلا فى الطبيب والدواء. وفى زحمة الاهتمام بمتابعة أخبار «كورونا» تحركت أقلام وألسنة عديدة بالحديث عن أوضاع الأطباء، لكن غالبية الأطباء لم يتحدثوا. قلة قليلة منهم فقط أخذت فى خضم الاهتمام المفاجئ بأدوارها تتحدث عن كم المعاناة التى تواجهها.
حال الأطباء من حال أصحاب المهن المختلفة فى مصر، ممن اختاروا طريق العلم والتعلم، تشكلت منهم الطبقة الوسطى فى مصر، وبعضهم غرد خارجها فرضى بالعيش وسط الطبقة الفقيرة. منذ عقود طويلة وفئة المتعلمين فى مصر تعانى بشدة من مشكلات متنوعة ولدت لديها إحساساً بالغبن الاجتماعى والاقتصادى. لعلك تذكر ذلك المشهد الذى وقف فيه نجيب الريحانى فى فيلم غزل البنات يسمع المرتب الذى يقبضه السفرجى ويتأمل لبسه «الباشواتى» ومرتب من يرعى «الكلب اللولو» ويتأمل لبسه «الشيك» وعندما يسأله الأخير عن مهنته يرد ساخراً: «أنا بتاع علم.. بتاع كتب»!. المشكلة قديمة وترتبط بضعف الطلب على العلم، فى وقت يتعاظم فيه الطلب على «الهلس» وصناع «الهلس».
من جوانب «المنحة» فى محنة «كورونا» أنها بدأت تنبه العالم كله إلى قيمة العلم وأهمية المتعلمين. تنبه العالم وهو يسأل عن لقاح أو دواء لهذا الفيروس إلى أهمية البحث العلمى وعوائده المهمة. عالم ما بعد كورونا سوف يشهد طلباً أكبر على العلم والمتعلمين والبحث العلمى، وقد يقابل ذلك تراجعاً محسوساً فى حجم الطلب على «المهلاستية» وتجار «الهلس».