الأزمة المفاجئة التى تولدت عن انتشار فيروس «كورونا» على مستوى العالم كانت بمثابة لحظة كاشفة لعشرات الأمور الاجتماعية والاقتصادية فى حياتنا.. من ذاكر تمكّن من إجابة بعض أسئلة الامتحان فنجح فى الاختبار، ومن لم يستعد ويحصّل دروسه، كان سقوطه عظيماً.
بعض الأمور عندنا انكشفت، ووضح عدم قدرتنا على التنافس فيها ومواكبة متطلبات العصر وتلبية احتياجات الجماهير.. من هذه المجالات مجال الإنتاج الدرامى الذى كان من أذرع القوة الناعمة المهمة للدولة المصرية. مائة مليون مصرى يجلسون، هذه الأيام، فى بيوتهم، بدءاً من السابعة مساءً على الأقل، يحتاج السواد الأعظم منهم إلى وسائل ترفيهية مختلفة، مثل مشاهدة الدراما.
لو كان لدى مصر «بنية تحتية» درامية لانشغل الناس الآن من المحيط إلى الخليج بالمحتوى المصرى بدلاً من الاتجاه غرباً.. مصر الآن تتابع دراما غير مصرية، أحدثها ما يُبث على منصة «نتفليكس» الأمريكية.
يقدم موقع «نتفليكس» دراما شبه مجانية، لأنه لكى يكون لديك حساب على الموقع فهذا يكلفك مائتى جنيه مصرى شهرياً (مع ملاحظة أن شهراً مجانياً تماماً سيحصل عليه أى زائر للموقع قبل دفع أى شىء، ويمكن بالمناسبة وبطريقة بسيطة تجديده مجاناً شهرياً إلى الأبد، المهم أن تمتلك إيميلاً جديداً كل مرة!)، ويمكن لخمسة أفراد استخدام الحساب الواحد فى اللحظة ذاتها على خمسة أجهزة مختلفة (تليفزيونات ذكية وهواتف نقالة وحواسب وغيرها)، وكل فرد من هؤلاء الخمسة يمكنه توزيع الحساب على زملائه، بأى عدد، بحيث يفتحونه فى أى وقت، وبالتالى فربما يشترك عشرة أو عشرون أو خمسون فرداً أو أكثر فى حساب واحد فقط لا غير (الأمر يشبه فكرة وصلة الدش التى ظهرت أوائل الألفية الجديدة، لكن بتكاليف زهيدة).
فاتورة مشاهدة الدراما فائقة الجودة أصبحت أرخص من فواتير المياه والكهرباء والغاز والتليفونات، حتى دور العرض السينمائى تلقت بذلك ضربة موجعة، تماماً مثلماً فعلت هى منذ نصف قرن مع فن المسرح، الذى احتفظ بقيمته وفقد رواجه.. ويبدو أن الأمر بالنسبة للشركة الأمريكية لم يعد يتعلق بالأرباح، ولكن بالرواج وفرض السيطرة، وهو ما يمكن استغلاله لاحقاً لبث الرسائل وتوجيه الآراء.
«نتفليكس» هى المنصة الوحيدة التى تُنتج محتوى خاصاً بها، بجانب شراء حقوق بث أفضل الأفلام والمسلسلات على مستوى العالم، وهى بذلك منصة قوية للغاية، وتذكّروا ما حدث حينما أنتجت المنصة فيلم «الملاك» الذى شوه المصرى «أشرف مروان»، الفيلم لف العالم وشاهده ملايين البشر، أما نحن فكتبنا مقالات قرأناها نحن، وأجرينا لقاءات شاهدناها وحدنا.
أثبتت أية منصات أخرى عدم قدرتها على التنافس حالياً، مثل منصة «شاهد» الخليجية، وبها بعض المشكلات التقنية، فضلاً عن عدم تميُّز المحتوى.. أما منصة «ووتش إيت» المصرية فقد توارت واختفت فى هذه الأزمة، رغم ما صُرف عليها من أموال، فالأمور لا يمكن أن تُدار فقط بعمليات تجميع تراث الدراما المصرية، القديمة والحديثة، ومباريات كرة القدم وغيرها بشكل حصرى على التطبيق.
ستخرج صناعة المحتوى الرقمى من الأزمة منتصرة بالضربة القاضية الفنية، الفائز الأعظم سيكون موقع «يوتيوب»، وسينتهى عصر التليفزيون، وتضمحل السينما بشكلها الحالى خلال هذا العِقد الذى نعيشه.. عموماً فى انتظار عودة قوتنا الناعمة، يُحيى العظام وهى رميم.