من الصعوبة بمكان، أن ينكر أحد، تدهور أوضاع قاهرة المعز، والتى تحتضن على مرّ تاريخها، ما لم تحتضنه أى مدينة أخرى فى العالم.. فأنت، فى القاهرة، الساحرة، تستعرض تاريخ الإنسانية، منذ العصور السحيقة، وترصد تطور البشر منذ بداية النشاط الإنسانى ودور الإبداع فى الترقى وتهذيب النفس وإثراء العقل، حتى ينتج أكثر ويواصل الإبداع.. ومن الخصائص التى تميز القاهرة، آثارها الإسلامية، الشاهدة على المراحل المبهرة فى الحضارة العربية الإسلامية والتى ازدهرت ووجدت الأرض القادرة على احتضانها والحفاظ عليها والاستشهاد بروعتها، إذا ما تطاول الدخلاء، وكالوا للعرب والمسلمين كل مثالب الدنيا، إذ يكون الأمر ليس مجرد كلام إنشائى «كنّا وكان» بل صروح شاهقة القدر والقيمة، تقول ما يعجز عنه اللسان وما تشهده الأعين.. القاهرة الإسلامية هى عشق المصريين وكل محبى التراث الحضارى الإنسانى، ومن هؤلاء الأديب والروائى العالمى جمال الغيطانى، رئيس مجلس إدارة مكتبة القاهرة الكبرى، التى أسسها الراحل الكاتب الكبير الصحفى كامل زهيرى.. عقد الغيطانى ندوة عنوانها «صرخة» تطالب بإنقاذ القاهرة الإسلامية وآثارها الرائعة، من عبث العابثين وتهاون المتهاونين، بعضهم عن جهل والبعض الآخر عن عمد، فى إطار مخطط تجريدنا من كل ما يمكن أن يمدنا بالتفاؤل، والثقة فى المستقبل، إذ يصعب أن نعجز عن تجاوز النفق الحالى، إذا كان تاريخنا، «كلّه محن، وأيامنا كلها كربلاء» كما قال الشاعر العربى السورى الراحل نزار قبانى.. حضر الندوة لفيف من المثقفين والمتخصصين فى علوم الآثار وبعض الشخصيات العامة.. سجل الغيطانى وفريقه، كل ما لحق، خاصة، فى العقود الخمسة الأخيرة، بالقاهرة التاريخية من عدوان همجى، استكثر عليها هذا الجمال الباهى ونثر حولها كافة أنواع القبح والدمار، ورفع بلاغاً للنائب العام، للإسراع بإنقاذ ما يمكن إنقاذه من جهة، ووقف التعديات المحمومة فى سرعتها لتشويه ما تبقى من آثار من جهة ثانية، وذلك تطبيقاً للقوانين المصرية والمعاهدات الدولية التى وقعت مصر عليها مثل منظمة اليونيسكو التى وضعت آثار القاهرة الإسلامية ضمن التراث العالمى للإنسانية جمعاء.. وقد تأثرت بشدة من كل الكلمات التى ألقيت ولكن الدموع كادت تطفر من عينى وأنا أتابع طالبة الدكتوراه وعضو حركة «أنقذوا القاهرة» أميمة عبدالبر، التى أسهمت بعرض دراسة جادة ووافية، للوضع الكارثى، وأكدت بالصورة وبتعليقها عليها، مدى فداحة ما يجرى يومياً من انتهاك لتاريخ أمة وللأسف البليغ، بأيدى «أبنائها؟!». شاهدنا والحسرة تعتصر قلوبنا، الحالة الكارثية فى القاهرة التاريخية على مستوى الزخارف فى مساجد السلطان المؤيد شيخ والسلطان برقوق والسلطان حسن وغيرها، كما رصدت الباحثة المحبة لتراث بلدها، الحالة الكارثية على مستوى المبانى التاريخية مثل جامع السلحدار، وعقدت، بالصور، مقارنة بين القاهرة التاريخية التى لم يجرؤ معتد على النيْل منها، وكيف كانت فى قمة الجمال والتناسق، وبين ما آلت إليه، وتلال القمامة تحاصرها على الأرض، والمبانى العشوائية، المنفرة، تحاصرها فوق السطح، وكأنها تتعمد إخفاء معالمها، ناهيك عن سرقة قطع أثرية نادرة، يدفع فيها، من لا تاريخ ولا حضارة لهم، مبالغ طائلة، وكأن تلك أمور تُشتَرى! وليس ما سبق إلّا بعضاً من الجرائم فى حق القاهرة الإسلامية، فهناك التسيّب الحكومى، الذى صاحب انسحاب الدولة، بحيث لم يتم مجرد سؤال رئيس حىّ أو محافظ، عن الأبنية الشاذة والتى كأنها أقيمت، لحجب «فضيحة» وجه القاهرة الحضارى، والتى قام معظمها بالتأكيد، لقاء رشاوى أو تطبيقاً لشعار مرحلة الانفتاح، أنا ومن بعدى الطوفان.. وإذا لم يسارع النائب العام بالبت فى البلاغ المقدم من المكتبة، وإذا لم نحقق جميعاً أمنية «أمنية»، التى هى أمنيتنا جميعاً، أخشى أن أقول إن الطوفان قد «يتشجع» غير عابئ بصراخنا ولا مهتم أدنى اهتمام لا بالقاهرة، ولا حتى بمصر كلها.. أتمنى نسمة تفاؤل من قبل النائب العام ومن جانب محافظ القاهرة..