الرهان على الوعى بديلاً لإعمال القانون وإنفاذه رهان خاسر وقاتل. والاعتماد على مناشدة السادة المواطنين توخى الحذر ومراعاة المنطق وإعمال العقل فى شئون تتعلق بصحة وسلامة الشعب اعتماد قاصر يعرّض حياة الملايين للخطر. وحتى فى الدول، حيث أعتى شعوب الأرض تقدّماً وتعليماً ووعياً، لو تُرِكت أمورها الحيوية من صحة وسلامة قيد الرهان على الوعى وحُسن الاستجابة للمناشدات لتدهورت أحوالها وساءت أوضاعها.
وهنا حيث جوائح عدة تضرب دون هوادة منذ عقود ننظر حولنا، ونرى آثار ما فعلته أنظمة سابقة من إهمال وتواكل فى إعلاء شأن دولة القانون. فالتعليم الجيد وليس الورقة التى تفيد الحصول على شهادة هو أحد العوامل المساعدة لاحترام وإعلاء شأن «دولة القانون». كذلك الثقافة وروافدها المتعدّدة أحد عوامل إعلاء شأن دولة القانون. والتربية القائمة على احترام حقوق الآخرين ومعرفة الفرق بين الصح والخطأ عامل آخر يضع دولة القانون على رأس الأولويات.
لكن منذ تحول التعليم إلى صراع من أجل الورقة، واحتل السنتر مكانة المدرسة، وتحول معلم الفصل الذى يعلم ويربى إلى «مستر» يلف على البيوت أو يتمركز فى السنتر «يلم الأجرة»، وحلت النسخة المستوردة من التفسير الدينى محل الأخلاق والقيم والقواعد السلوكية، أصبحت «دولة القانون» حبراً على ورق.
ومنذ تُرِك الرعاع ينقضّون على الثقافة، فيُكفرون الفنانين، ويزدرون الفنانات، ويحرمون الرسم والتفكير خارج توابيت الفكر الضيقة التى صنعوها بأياديهم ويحجرون على الفكر والإبداع بمقصلة التحريم والترهيب، وقيمة «دولة القانون» فى النازل.
ومنذ تحولت التربية إلى رفاهية بحجة ضيق الوقت المخصّص للسفر هنا وهناك لتأمين الغسالة الفول أوتوماتيك والتليفزيون الـ52 بوصة، مع اقتصار التقويم على إقامة الصلوات دون تفكر فى المعانى أو تدبّر فى الرسائل، تحولت «دولة القانون» إلى هيكل دون أساس.
أساس التعامل والحياة المشتركة بين البشر فى أى مكان هو مجموعة القوانين التى تحكم علاقاتهم ببعضهم البعض. والعبرة ليست بكثرة القوانين -فلدينا ترسانات هائلة منها- لكن بتطبيقها. والعبرة ليست بتطبيقها يوماً وتعطيلها أياماً، أو بتطبيقها على هؤلاء وليس أولئك، ولكن بتطبيقها على مدار الـ24 ساعة على الجميع.
والجميع فى مصر على مدار ما يزيد على نصف القرن بات يعرف أن القانون مسألة موسمية أو شكلية أو ترويعية، وليس مسألة تنظيم حياة وحماية حقوق وضمان تفعيل واجبات. وتُرِكت الحياة لكل مجموعة من البشر قيد مفهومها الخاص. مجموعات تطبّق قانون البقاء للأقوى، حيث الغلبة للعضلات والسطوة للأكثر قدرة على البلطجة، أو ترويع الآخرين دون أن يحاسب أو يعاقب. مجموعات أخرى قررت أن تكون التفاسير المستوردة للدين هى ما احتكم إليها فى علاقاتها مع بعضها البعض، فى ظل رضا أو راحة بال من الدولة. مجموعات ثالثة استساغت وربما اعتقدت أن العشوائية والفوضى هما سمة الحياة، فنشأت وكبرت وتزوجت وأنجبت المزيد من العيال فى ظل منظومة العشوائية للجميع.
المفاهيم المرتبطة بـ«دولة القانون» ترتبط فى ذهنى حالياً بقضيتين: الأولى مزمنة، ألا وهى المرور وقواعد السير، والثانية مستجدة، ألا وهى الفيروس المستجد. وكلتاهما تتداخل فيها تشابكات وتعقيدات تحقير «دولة القانون» بفعل تدهور قيمة التعليم، واحتقار الثقافة وتحولها إلى ثقافة دينية مستوردة، وكل ذلك مدعوم بـ«شرا دماغ» من قبل الدولة حتى كان ما كان فى 2011.
معضلة المرور التى تتمثل فى ترك مسائل القيادة والسلامة قيد «كل واحد وعلامه»، تبدأ بإصدار رخصة القيادة دون تدقيق، وتمر بترك الملايين يقودون مركباتهم كل حسبما يتراءى له، وتنتهى بسفك دماء يومى على الطرقات. وزاد طين الفوضى بلة مدناً جديدة بأكملها خالية من إشارة مرور أو كاميرا مراقبة أو عسكرى واحد. ولنأخذ «مدينتى» نموذجاً، هذا التجمع السكنى الكبير بشوارعه الكبيرة والصغيرة، حيث الآلاف من السكان وعمال الدليفرى والباصات وغيرها، وقد تُرِكت قواعد المرور فيها قيد تقييم كل منهم. سير عكسى ليلاً نهاراً، عيال صغيرة تقود سيارات الأهل، سباقات سيارات فى ساعات الحظر، وحوادث تقع، وفى كل مرة يتم تحمل القضاء والقدر المسئولية، ثم تعود الفوضى لسابق عهدها. وآخرها طالب دون السن القانونية ومعه ثمانية أشخاص يقود سيارة والده بسرعة جنونية عكس الاتجاه ليصدم مواطنتين، فيقتل الأولى وتصاب الثانية.
فهل يُعقل أن نحمّل القضاء والقدر مسئولية فوضى البشر القاتلة ونسكت على استمرار حصد الأرواح، رغم أن الحل يكمن فى تطبيق القانون كل يوم وكل ساعة من قِبل أشخاص يؤمنون بمعنى القانون وقيمته؟ أما الوضع المستجد بفعل الفيروس، فأخشى ما أخشاه أن تترك الأمور بعد شدة الغربال الأولى لوعى المواطن ونناشده باتباع قواعد النظافة والتباعد وارتداء الكمامة، فيُذعن البعض وتضرب الغالبية عرض الحائط بالفيروس وبالقانون. (ملحوظة: ارتداء الكمامة مع إخراج الأنف هى والعدم سواء).