حدث ذلك فى نهاية الثمانينات الفائتة.. كنت طالباً فى كلية الإعلام، جامعة القاهرة، أحظى بكثير من المزايا المهمة والنادرة. لقد كنت أصل إلى الجامعة بتذكرة أوتوبيس لا تكلفنى سوى عشرة قروش، ثم أدخل من بوابة ضخمة تفضى إلى ساحة جامعية لا تقل هيبة وجمالاً عما رأيت فى جامعات أوروبية وأمريكية عريقة لاحقاً، قبل أن تطالعنى القبة المستقرة فى شموخ بنقوشها البارزة الجميلة. تلك الساحة بالذات، قال عنها أستاذى الدكتور عبدالمحسن طه بدر، الذى كان يُدرس لنا مادة النقد الأدبى فى سنتنا الجامعية الثانية، إنه خلع نعليه بمجرد ولوجه إليها فى المرة الأولى.. مضيفاً ببسمته الرائقة وحسه الإنسانى النادر: «أليست حرماً؟». كنا نقبع فى الدور الرابع من مبنى كلية الاقتصاد والعلوم السياسية؛ الذى صُمم بأناقة بالغة وفق مقاييس هذا الزمن، وهى أناقة لم تنل من وقاره العلمى، بقدر ما أضفت عليه جمالاً من نوع خاص. نعمت بنخبة من زملاء نابهين وطموحين، أتى معظمهم من الأقاليم البعيدة، بلهجات متباينة، وأزياء يطبعها شظف عف، ويشعل ألوانها ذوق صاخب، ولا تمنحها البساطة غير المزيد من الألفة والطيبة. كان بينهم من يهيم عشقاً بأغانى السيدة أم كلثوم، ولا يتوقف عن مناكفة أعضاء حزب السيدة فيروز، فيما نحن نغرق فى الضحك على هذا النزاع العبثى، إذ كنا نعشق كل ما قالته السيدتان، فيما نرنو إلى شريط للشيخ إمام أو مارسيل خليفة. برزت بيننا ثلة من شبان، نراهم كثيراً فى الدور الثالث حيث زاوية الصلاة، وهم بلحاهم الغضة الناتئة بصعوبة، وعلامات السجود على جباههم، والكتاب المضموم بعناية على صدورهم، يحاولون الاعتصام بوحدتهم، وينشدون التمايز. بينما نحن غارقون فى محفل لا ينضب من الهدايا الرائعة، التى كنا نحصل عليها بسهولة بالغة؛ سواء من مكتبة الثقافة الجديدة فى وسط البلد، أو من دار الكتاب العراقى، أو من بائعى الكتب المستعملة رخيصة الثمن وعظيمة الأثر على سور الأزبكية. أذهب إلى الجامعة كل يوم وفى جيبى كتاب انتهيت من قراءته، لأبادله بكتاب جديد.. مكتبة رائعة مفتوحة لا تنفد عطاياها. ديوان المتنبى، وبعده الأعمال الكاملة لصلاح عبدالصبور، ثم جميع ما كتب أمل دنقل، وعشرات من إبداعات الأدب الروسى، وتجليات أدباء أمريكا اللاتينية، وبين هذا وذاك، نسخة ممنوعة من كتاب «الشعر الجاهلى»، وبعدها مباشرة رواية «الخبز الحافى» الصادمة لمحمد شكرى. أما صديقنا الذى ينتمى إلى عائلة يسارية عريقة، فلم يبخل علينا أبداً، سواء بالكتب الصغيرة المؤسسة؛ مثل «المانفستو»، أو «ما العمل؟»، أو بإبداعات هيجل وكانت وفريدريك إنجلز، وصولاً إلى «رأس المال». كنا نذهب إلى المسرح، وننتظر بفارغ صبر فيلماً لداود عبدالسيد أو عاطف الطيب، لنمضى وقتاً فى السينما، وكثيراً ما التقينا فى ندوات المركز الثقافى الروسى، أو سيمينارات «السيداج»، أو الندوات المفتوحة الصاخبة فى معرض الكتاب. كانت هذه عملية تكوين فريدة، لم تكن تشغلنا هموم الدراسة، التى نتجاوزها ببساطة بفضل حس ثقافى لم يعجز أمام مقاربات علمية جلها يركز على علوم إنسانية. لم يكن يشغلنا فقرنا، فقد مهد لنا النظام الناصرى، الذى لم تكن أواصره قد تعطلت بعد، سبل الاستدامة والصعود؛ فثمة 14 جنيهاً نحصل عليها شهرياً بسبب التفوق، واستمارة «صيدناوى» نتسلمها فى مستهل العام بـ35 جنيهاً، فندارى بها بعض عوزنا، والكتب نحصل عليها من رعاية الشباب مجاناً، وحين يُطلب إلينا تبرع مالى كجزء متمم للمصاريف السنوية التى لم تزد على 13 جنيهاً، نهرع إلى الدكتورة عواطف عبدالرحمن، لتحاول إعفاءنا من الدفع.. فلا تتأخر. اخترت التخصص فى مجال الإذاعة والتليفزيون، قبل أن يلومنى رفاقى ويبالغوا فى هجائى؛ إذ دخلوا جميعاً إلى قسم الصحافة. على أى حال، فقد استجبت لهم، ونقلت أوراقى إلى هذا القسم الأخير. فى الأيام التى أمضيتها فى قسم الإذاعة، سعى أستاذ لنا هو الدكتور نبيل طلب إلى تعزيز قدراتنا على العرض والتقديم وبناء الحجج. ولكى يحقق هدفه، فقد اختار أسلوب المناظرة العملية، وعمد بذكاء إلى اختيار ضدين فكريين يمتحنهما فى نقاش مقنن، عبر تركيز المحاور، وضبط توقيتات الكلام. كان موضوع المناظرة واضحاً وبسيطاً: «ماذا تفعل مصر لكى تخرج من أزمتها؟»، أما المتناظران، فكنت أحدهما، وأمامى أحد هؤلاء الزملاء ذوى اللحى النابتة بعناء، وعلامة الصلاة على الجبهة، والكتاب المضموم إلى الصدر برفق وعناية.
بدأت أنا، منطلقاً مما جمعته وفهمته من أدبيات متاحة ومتوافرة بسخاء، ولم يفتنى التأسيس الفكرى والعلمى للتوصيات المطلوب أن تكون عملية ومحددة، كما لم تعوزنى الحجج التى سمعتها فى الندوات وقرأتها فى مقالات صحف اليسار الرائجة آنذاك. تحدثت عن التعليم، والصحة، وتكافؤ الفرص، والقطاع العام القادر الناجز، والعدالة الاجتماعية، والتصنيع، وإحلال الواردات (كان مرغوباً وعلى قدر من المنطقية)، ومكانة ودور إقليميين يليقان بمصر وتقدر عليهما. لكن هذا الشاب الهادئ ذا اللحية الناتئة بصعوبة باغتنى برد صادم. لقد قال ببساطة: «سبقنا الغرب كثيراً فى كل هذه المجالات، ولا يمكن أن نناطحه فى تفوقه المادى المتراكم. لكن يمكن أن نحل مشكلتنا عبر الحصول على كل هذه الإنجازات. وسيكون هذا من خلال الغزو».
نعم.. قال هذا. قال إننا يمكن أن نحل مشكلاتنا، وأن نتجاوز عثرتنا التاريخية، وأزمتنا التنموية، وأن نحصد الثراء والقوة إذا قمنا بغزو هؤلاء، وسلبهم نتاج عملهم وتفوقهم لقرون.
وهل يمكن لنا أن نهزم هؤلاء الأكثر تفوقاً وقوة ومنعة؟ هل تتركنا الأمم والمنظمات الدولية والقوانين والمعاهدات؟ هل هذا عدل وشرف؟ أجاب بهدوء: «نعم.. يمكن لنا ذلك عبر (الجهاد). هذه مجتمعات جاهلية كافرة، لا تخلص فى عبادة الله، وتتخذ آلهة دونه. أما نحن فيجب أن نكون طليعة (الجهاد)، وأن نستكمل عدته ووسائله، وأن نبعث ديننا من جديد، لنتسلم قيادة العالم». بعد المناظرة، أصر زميلى ذو اللحية الناتئة بصعوبة أن يهدينى كتاباً، وقد كان «معالم فى الطريق» للأستاذ سيد قطب، وقد قرأته بعناية.. وتلك حكاية أخرى، أرويها لكم لاحقاً.