نقترب رويداً رويداً من لحظة مصيرية أخرى فى تاريخنا المعاصر، لحظة نقرر فيها كمواطنين أحرار من يقود بلادنا العزيزة فى السنوات الأربع المقبلة. لحظة نعتقد فى داخلنا جميعاً أنها ستنهى الشق الأكبر من حالة اللايقين التى فرضت نفسها علينا فى السنوات القليلة الماضية بحكم الثورة وسرعة معدلات التغيير وكثافة الهدم وارتفاع الطموح لدى كل منا بأن يكون المقبل أفضل وأكثر وعداً.
اللحظات المصيرية فى تاريخ الشعوب العريقة صاحبة الحضارات العريقة الممتدة فى عمق الزمن كثيرة تُكتب فى مجلدات ومجلدات، ومع ذلك تظل هناك لحظات مصيرية أكثر تأثيراً من غيرها، أو لنقل أكثر ارتباطاً بوجدان المجتمع بأجياله المختلفة وتنوعه الفكرى والثقافى مقارنة بلحظات مصيرية أخرى. والسبب هنا يرتبط بعمق التغيير ومداه وشموله الذى ينتج عن لحظة ولا ينتج عن أخرى بنفس العمق وقدر الشمول. وأتصور أن المصريين جميعاً فى الداخل وفى الخارج، وبغض النظر عن الرئيس الذى سوف يختارونه، يشعرون الآن بأنهم يكتبون تاريخ بلدهم من جديد وبحروف من نور، وأنهم باتوا أصحاب القرار، وهم المرجع الأول والأخير فى تحديد بوصلة الوطن واتجاهه لعقود طويلة مقبلة.
وأتصور أيضاً أن المصريين جميعاً بمن فيهم الذين قرروا مقاطعة الانتخابات الرئاسية المقبلة لسبب أو لآخر، يتصرفون جميعاً باعتبارهم الرقم الأهم جداً فى معادلة المستقبل، وأن تصرفهم الفعلى أو الرمزى هو امتياز حصلوا عليه بفعل الثورة ولا يمكن لأحد أن ينتزعه منهم تحت أى ذريعة.
هذه الحالة المجتمعية هى الأساس لإحداث النقلة المنتظرة، وقابلة للتطور إن أُحسن توظيفها وتوجيهها نحو الفعل الإيجابى المنتج، والمستند إلى تصوّر واضح بشأن الغد القريب والبعيد معاً. وبمنطق المخالفة، فهى أيضاً قابلة للانتكاس للخلف إن تم التعامل معها باعتبارها مجرد لحظة جيشان عاطفى، ما إن يتم تفريغها ستعود الأمور إلى سابق السكون والجمود المعتاد. ولا ننسى أن هناك بالداخل وفى الخارج من يخطط لمثل هذه النتيجة وعبّر عنها بوضوح لا يخلو من هجومية وتآمر مفضوحين.
وإذا كانت حالة القابلية للتطور وحُسن التوظيف هى الأفضل تأثيراً من الناحية النظرية والتمسك بالأمل، فعلى الصعيد العملى والواقعى فإنها لا تخلو من حسابات معقّدة مجتمعياً ومؤسسياً. ونظرة واحدة على كثير من التصرّفات العفوية والسلوكيات العشوائية أو تلك القائمة على تدبير مسبق، سواء فى الشارع أو فى النوادى وفى الإعلام بأنواعه وفى المؤسسات الحكومية وغير الحكومية، يتأكد لنا أن هناك حالة من النزوع إلى الفوضى والتحلل من قواعد القانون وإنكار منظومة القيم الأخلاقية، والابتعاد كثيراً عن معايير المهنية، وسيادة الصوت العالى والتجاوز الأخلاقى، والنزعة المفرطة إلى إيذاء الآخر والبدء بذلك حتى دون سبب على الإطلاق. وهناك الكثير مما يقال عن تلك الظواهر الإجرامية الجديدة والشنيعة معاً التى يقترفها أفراد ومجموعات بكل راحة ضمير من أجل إشباع رغبات آثمة وملعونة فى كل الأديان والمجتمعات، ويشعر المرء بتقزز شديد مما ينشر حول انتهاك المحرمات، الذى يتكرر يومياً تقريباً، فضلاً عن نزوع فئات عمرية نحو اعتبار اللامبالاة كطريقة حياة.
ولا يمكن للمرء أن تُنسب مثل هذه الانتكاسات أو بعضها إلى الثورة فى حد ذاتها، التى تستهدف تحقيق أهداف نبيلة ذات أبعاد أخلاقية رفيعة، فى حين يمكن نسبها جزئياً إلى طبيعة الحراك الثورى والجماهيرى وما أنتجه من بيئة مجتمعية ترغب فى كسر القيود والضوابط بمعناها العام، فى الوقت الذى لم يصل فيه المجتمع إلى نقطة يقرر فيها صياغة ضوابط جديدة معيارية وأخلاقية وسياسية وهكذا، وتكون محل قبول عام وأساساً قوياً تُبنى عليه التفاعلات فى مستوياتها المختلفة.
وحين نتحدث عن اللحظة المصيرية الراهنة، لا يمكن فصلها عن فائض القيمة الذى سوف تنتجه هذه اللحظة للمجتمع ككل، وبهذا المعنى فإن قرار التغيير كإرادة مجتمع لا يقتصر فقط على الذهاب إلى لجان التصويت وإبداء الرأى وكفى، فهذا السلوك رغم أهميته القصوى فهو لا يمثل إلا نقطة بداية وحسب. واستطراداً، فإن عملية التغيير الشاملة، وإن تأثرت بوجود قائد يتمتع بحب الناس وتأييدهم، فإنه يظل أولاً وأخيراً مسئولية المواطن كفرد والمجتمع كجماعة.
قد يلعب القائد المحبوب والمسنود جماهيرياً دور المحفز والملهم وصانع الأمل، وقد يلجأ إلى الترهيب أحياناً وإلى الوعيد أحياناً وإلى التبشير بالحسنى أحياناً ثالثة، وقد يقسو حيناً وقد يلين حيناً آخر، وقد يُفصح مرة ويراوغ مرات، ولكنه فى كل الأحوال لا يضمن، ولا يستطيع أن يضمن مستوى الاستجابة وأسلوب التجاوب من المواطنين ولا كيف سيتصرفون. ومن يفكر بغير ذلك فسوف يرى ما لا يرضيه.
والسؤال كيف نجعل هذه اللحظة المصيرية المرتقبة نقطة انطلاق وتحدٍّ؟ فى تصورى المتواضع، وأخذاً فى الاعتبار كل المدخلات المحسوبة وغير المحسوبة، التى تنبع من عناصر مفاجئة لا قبل لأحد التنبؤ بها، فإن بناء الثقة لا يقف عند حد الكلمات وحسب، ومهما كانت الكلمات معسولة ومحببة للنفس فهى لا تكفى وحدها، وقد تدغدغ المشاعر الجماعية بعض الوقت، ولكنها تصبح كالقنبلة القابلة للانفجار بشدة لاحقاً. فإلى جانب الكلمات والوعود الجميلة، فالأهم هو الفعل والإنجاز والتحرك المحسوب والمخطط والمنهجى، الذى يراعى المصلحة العامة قبل أى شىء آخر. والأهم كذلك أن يُقبل المجتمع على تغيير نفسه، وأن ينفض كل غبار يغطى على جزء ولو يسير من حماسته ومن عقلانيته ومن رشده.
قد تبدو هذه روشتة مكررة فى معانيها وفى مصطلحاتها، قالها آخرون مرات ومرات، ولكنها تظل روشتة إصلاح حقيقية، إن غابت عن أعين القائمين على أمور هذا البلد المثقل بالجراح، والمهموم بحاضره ومستقبله، والطامح لنيل ثمار ثورته، ستكون النتائج غير محمودة. وإن غابت أيضاً عن عقول الناس، كل الناس وكل المستويات ستكون النتائج وخيمة أيضاً وبلا حدود.
وبقدر أهمية اختيار القائد الصالح الموثوق فى قدراته ووطنيته وإخلاصه، بقدر أهمية أن يغير المجتمع نفسه وأن يقبل بعض التضحيات الآن من أجل الحصول على العائد غداً. وكما يُقال فى علم الحرب، فدون تناغم حقيقى بين القائد والجنود، لن يكون هناك نصر. أعاذنا الله تعالى من الفشل والانتكاسة.