ابن الجوزى موسوعة علمية شاملة كلما قرأت له ازددت إعجاباً وانبهاراً به، وهذه طائفة من أهم رؤاه وأفكاره العبقرية فيما يلى:
جلست يوماً فرأيت حولى أكثر من عشرة آلاف ما فيهم إلا من قد رق قلبه، أو دمعت عينه، فقلت لنفسى: كيف بك إن نجوا وهلكت؟ فصحت بلسان وجدى: إلهى وسيدى، إن قضيت علىّ بالعذاب غداً فلا تعلمهم بعذابى صيانة لكرمك، لا لأجلى، لئلا يقولوا عذب من دل عليه.
من أراد أن يرى التلطف بالنفس، فلينظر فى سيرة الرسول «صلى الله عليه وسلم»، فإنه كان يتلطف بنفسه، ويمازح، ويخالط زوجاته، ويقبل، ويمص اللسان، ويختار المستحسنات، ويستعذب له الماء ويختار الماء البارد، والأوفق من المطاعم كلحم الظهر والذراع والحلوى، وهذا كله رفق بالناقة فى طريق السير. فأما من جرد عليها السوط، فإنه يوشك ألا يقطع الطريق. وقد قال صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ هَذَا الدِّينَ مَتِينٌ، فَأَوْغِلْ فِيهِ بِرِفْقٍ، ولا تُبَغِّضْ إلى نَفْسِكَ عِبَادَةَ رَبِّكَ، فَإِنَّ المَنْبَتَ لا سَفَرَاً قَطَعَ، ولا ظَهْرَاً أَبْقَى»
تأملت حالة أزعجتنى، وهى أن الرجل قد يفعل مع امرأته كل جميل وهى لا تحبه، وكذا يفعل مع صديقه والصديق يبغضه، وقد يتقرب إلى السلطان بكل ما يقدر عليه والسلطان لا يؤثره، فيبقى متحيراً يقول: ما حيلتى. فخفت أن تكون هذه حالتى مع الخالق سبحانه، أتقرب إليه وهو لا يريدنى. وربما يكون قد كتبنى شقياً فى الأزل. ومن هذا خاف الحسن فقل: أخاف أن يكون اطلع على بعض ذنوبى فقال: لا غفرت لك. فليس إلا القلق والخوف لعل سفينة الرجاء تسلم من جرف يوم دخولها الشاطئ.
رأيت أكثر الناس لا يتمالكون من إفشاء سرهم، فإذا ظهر عاتبوا من أخبروا به، فواعجباً كيف ضاقوا بحبسه ذرعاً ثم لاموا من أفشاه، وفى الحديث: «استعينوا على قضاء حوائجكم بالكتمان».
من أحب تصفية الأحوال، فليجتهد فى تصفية الأعمال، قال الله تعالى «وَأَن لَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُم مَّاءً غَدَقاً».
متى رأيت تكديراً فى حال فاذكر نعمة ما شكرت، أو زلة قد فعلت، واحذر من نفار النعم، ومفاجأة النقم، ولا تغتر بسعة بساط الحلم.
ينبغى للإنسان أن يعرف شرف زمانه، وقدر وقته، فلا يضيع منه لحظة فى غير قربة، ويقدم الأفضل فالأفضل من القول والعمل، ولتكن نيته فى الخير قائمة، من غير فتور لما يعجز عنه البدن من العمل، كما جاء فى الحديث: «نية المؤمن خير من عمله».
تأملت أكثر أهل الدين والعلم، فوجدت العلم شغلهم عن المكاسب فى بداياتهم، فلما احتاجوا إلى قوام نفوسهم ذلوا، وهم أحق بالعز.
ينبغى للعاقل أن يترصد وقوع الجزاء، فإن ابن سيرين قال: عيرت رجلاً فقلت: يا مفلس، فأفلست بعد أربعين سنة.
رأيت من الرأى القويم أن نفع التصانيف أكثر من نفع التعليم بالمشافهة، لأنى أشافه فى عمرى عدداً من المتعلمين، وأعلم بتصنيفى خلقاً لا يحصى.
ما أعرف للعالم قط لذة ولا شرفاً ولا راحة ولا سلامة أفضل من العزلة، فإنه ينال بها سلامة بدنه ودينه وجاهه عند الله عز وجل وعند الخلق، لأن الخلق يهون عليهم من يخالطهم، ولا يعظم عندهم قدر المخالط لهم.
لم يكن فى العزلة إلا التفكير فى زاد الرحيل والسلامة من شر المخالطة لكفى.
أصل كل محنة فى العقائد قياس أمر الخالق على أحوال الخلق.
كل شىء نفيس خطير يطول طريقه ويكثر التعب فى تحصيله.
العفاف لا يكون إلا بكف كف الشره، ولولا ما عانى يوسف عليه السلام ما قيل له «أيها الصديق».
غاب يوسف بن يعقوب عليهما السلام فبكى يعقوب ثمانين سنة ثم لم ييأس، فلما ذهب ابنه الآخر قال «عسى أن يأتينى بهم جميعاً».
من أقبح الذنوب أن يزنى الشيخ «كبير السن»، ففى الحديث «إن الله يبغض الشيخ الزانى» لأن شهوة الطبع قد ماتت، وليس فيها قوة تغلب، فهو يحركها ويبالغ، فكانت معصيته عناداً.
قل من رأيت إلا وهو يرى نفسه، أتراه بماذا رآها؟، إن كان بالعلم فقد سبقه العلماء، وإن كان بالتعبد فقد سبقه العباد، أو بالمال فإن المال لا يوجب بنفسه فضيلة.
ليس فى الدنيا أكثر بلاهة ممن يسىء إلى شخص ويعلم أنه قد بلغ إلى قلبه بالأذى ثم يصطلحان فى الظاهر، فيعلم أن ذلك الأثر محى بالصلح، وخصوصاً مع الملوك، فإن لذتهم الكبرى ألا يرتفع عليهم أحد، ولا ينكسر لهم غرض، فإذا جرى شىء من ذلك لم ينجبر، واعتبر هذا بأبى مسلم الخراسانى، فإنه غض من قدر المنصور قبل ولايته فحصل ذلك فى نفسه فقتله.
لا ينبغى أن تعادى أحداً ولا تتكلم فى حقه، فربما صارت له دولة فانتقم.
ما زال العقلاء يظهرون التجلد عند المصائب والفقر والبلاء، لئلا يتحملوا مع النوائب شماتة الأعداء، وإنها لأشد من كل نائبة، فكان فقيرهم يظهر الغنى، ومريضهم يظهر العافية.