بعد أشهر من الموقف الضبابى للولايات المتحدة فى ما يخص ما يجرى فى ليبيا، يبدو أن هناك فى الأفق ما يشبه تبدلاً للتقديرات الأمريكية، وما قد يستتبعها من إزاحة لسحابات الغموض التى غلّفت تصريحات وتحرّكات الإدارة، خاصة فى الفترة التى أعقبت جلسات «مؤتمر برلين»، الذى عُقد بفكرة وتفويض أمريكى لألمانيا، كى تدخل على خط صياغة المسارات الثلاثة التى انبثقت منه، لتحديد مستقبل الأزمة الليبية التى كانت حينها يناير 2020 تقف عند محطة انسداد، تمثلت فى معادلة «توازن ضعف» ظلت ماثلة على أسوار حصار طرابلس العاصمة، حين لم يتمكن الجيش الليبى من حسم الأمر لصالحه، فى الوقت الذى عجزت فيه القوات التابعة للوفاق عن إزاحة الحصار الذى ضُرب على العاصمة، إلا بعد التدخل التركى المباشر، والذى قيل فيه الكثير، لكن ظل ارتباطه بالولايات المتحدة مثاراً لتساؤلات عدة، مثل حجم الاختراق والانتهاك التركى الكامل لقرارات الأمم المتحدة فى ما يخص حظر تزويد ليبيا بالسلاح، إلى ماضٍ تجاوزته عمليات التدفق الهائلة لجميع أنواع الأسلحة، وما أعقبه من جسر جوى وبحرى غير مسبوق لنقل المرتزقة والعناصر المسلحة من سوريا، ومن معسكرات اللاجئين الموجودة على الأراضى التركية. ليفتح ذلك الباب أمام تساؤل مشروع أجمع عليه الكثيرون، حول إمكانية إقدام أنقرة على تلك النقلة النوعية فى الانخراط على هذا النحو، دون سماح أمريكى أو إيعاز للعب دور جديد يتجاوز الدعم الخفى لـ«حكومة الوفاق».
الجناح الأمريكى الذى يصمت على الأقل أمام التوغل التركى فى ليبيا، لديه الكثير من المبررات، على رأسها جاءت الخشية من تطور الوجود الروسى وممارساته طوال العام الماضى، فالتقديرات الأمريكية ذهبت إلى أن الصراع اتّخذ منعطفاً دراماتيكياً منذ مايو الماضى، وقت أن أرسلت روسيا سراً طائرات مقاتلة متطورة إلى ليبيا لدعم المشير خليفة حفتر، وقد زاد على الاتهام الذى حركت واشنطن الأمم المتحدة لتوجيهه بحق موسكو، ليس فقط إرسال الأسلحة وإنما نشر المرتزقة الروس المرتبطين بالكرملين «مجموعة فاجنر» فى ليبيا. بل وذهبت الولايات المتحدة إلى تكليف قيادة «قوات الأفريكوم» الأمريكية، للقيام بمهام استخباراتية تتمثل بصورة رئيسية فى توثيق هذا التدخل الروسى، من أجل تدمير سمعة روسيا التى تحاول أن ترسخها باعتبارها مفاوضاً ووسيط سلام يحث الأطراف على الوصول إلى اتفاق لوقف إطلاق النار كما جرى قبيل «مؤتمر برلين»، فى الوقت الذى تعزز فيه القدرات العسكرية لحليفها، مما يسهم فى تأجيج الصراع.
على نحو آخر؛ وفى الفترة الزمنية ذاتها تقريباً كانت تركيا «البراجماتية» تدرك أن واشنطن فى هذا السياق، ربما تكون قد وصلت متأخرة كثيراً، فأنقرة تعلم قبل غيرها أن موسكو قطعت شوطاً طويلاً، وأصبحت من المحاورين الأساسيين فى الصراع الليبى الداخلى. وأن سعيها لاكتساب مكانة وترجمة قدرتها على فرض رؤاها على المجتمع الدولى، قد وصل إلى مرحلة متقدمة دفعت تركيا إلى الحرص على الوجود فى الكرملين أثناء إعداد «الطبخة الروسية»، وكان مشهد «شاويش أوغلو» وزير الخارجية وهو يصطحب قيادات «حكومة الوفاق» إلى هناك دالاً، وعلى مدار أيام عقد معهم الاجتماعات فى القاعات الجانبية لتأهيلهم للقبول بما سيجرى فرضه عليهم من الجانب الروسى، وفق المبادرة الروسية حينئذ التى جرى إعلانها من أنقرة قبيل هذا المشهد بأيام.
بعد الإخفاق فى صناعة هذا المشهد، لم تكن تركيا لتغادر خالية الوفاض بعد المشوار الذى قطعته مع روسيا من أجل التقاسم، فبمجرد انتهاء وقائع مؤتمر برلين قفزت مباشرة إلى الجانب الآخر، لتقوم ببيع تفاصيل هذا التغلغل الروسى إلى الغرب على لسان «أردوغان» إلى المستشارة ميركل بإسطنبول، فى الزيارة التى هرعت الأخيرة إليها عقب أيام من جلسات برلين. نفث «أردوغان» حينها كل سمومه التى أربكت مخرجات برلين، وأشعل مزيداً من نيران المخاوف والقلق الغربى وهو يعلم جيداً أنه سيصل إلى واشنطن قبل أن تغادر المستشارة الألمانية الأراضى التركية بعد تيقنها أن السباق مع روسيا، قد بدأ فعلياً على المضمار الليبى.
منذ تلك المحطة؛ وما جرى من تدمير متعمّد لمخرجات المؤتمر الدولى الذى بُذل فيه جهد كبير من أجل إنقاذ ليبيا، عبر السماح لتركيا بأن تكون رأس الحربة الغربية التى تقوم بإزاحة روسيا إلى الخلف، فإذا بها تقوم بأكبر عملية نقل للمرتزقة والإرهابيين وتغرق المشهد الليبى بالسلاح، على النحو الذى لم يتوقعه الغرب بهذه السرعة، فإذا به يستيقظ متأخراً «كالعادة»، بعد أن وجد وزير الدفاع التركى وقياداته العسكرية يتجولون فى شوارع وقواعد الغرب العسكرية.
«قوات الأفريكوم» الأمريكية التى كلفت بتوثيق الوجود العسكرى الروسى، من أجل أن تستخدمه الإدارة فى اختزال الأزمة الليبية المعقّدة فى «مجموعة فاجنر»، وجدت أن الوجود التركى وحجم الاستحواذ على القرار ونقاط الارتكاز الاستراتيجية، يفوق فى خطورته أى شكل من أشكال الوجود الروسى، مما دفع قيادات «الأفريكوم» فى اجتماعهم الأخير مع «فايز السراج» إلى حثه على ضرورة تقييد السماح للحركة التركية بهذه المساحات التى ستُعقّد الأزمة، خاصة فى ما يخص «القواعد العسكرية». لكن السراج بدا وكأن الأمر قد انفلت بالفعل من يديه، وتحقيق الرغبة الأمريكية فى التعامل معهم بديلاً عن العسكريين الأتراك قد فات أوانه، مما جعل الجانب الأمريكى يدخل إلى مرحلة تخبّط جديدة، خاصة فى ما يمكنهم عمله فى لملمة آثار الفوضى الهائلة المترتبة على التمدّد التركى غير المحسوب. الارتباك الأمريكى ربما أصدق صورة له، هو التقرير الفصلى الذى خرج مؤخراً من «البنتاجون» بشأن عمليات مكافحة الإرهاب، حيث جاءت فيه أعداد المرتزقة السوريين الذين أرسلتهم تركيا إلى ليبيا فى أشهر يناير وفبراير ومارس، بين 3500 و3800 فرد. ومن جهة أخرى، كشف التقرير أيضاً أن أنقرة نشرت «عدداً غير معروف» من الجنود والمستشارين العسكريين الأتراك فى ليبيا خلال الأشهر الثلاثة الأولى ذاتها من العام الحالى!