بالتزامن مع زيارة الرئيس الفرنسى «ماكرون» إلى لبنان، وقّع أكثر من 36 ألف لبنانى على عريضة تدعو لعودة «الانتداب الفرنسى». لعلك تعلم أن لبنان خضعت للانتداب الفرنسى منذ العام 1920. وخاض اللبنانيون كفاحاً مريراً من أجل تحرير بلدهم، وبعد اتحاد وطنى بين مسلمى لبنان ومسيحييها خرج المحتل الأجنبى وحكم اللبنانيون أنفسهم بدءاً من العام 1943. الآن بعد مرور ما يقرب من 77 عاماً خرج عدد كبير من اللبنانيين يدعون الفرنسيين إلى احتلالهم من جديد.
الشعوب معذورة. المواطن اللبنانى يريد الحياة. وفى ظل الأوضاع الحالية، والأداء القاتل للحكومات التى تعاقبت عليه خلال السنوات الأخيرة لم يعد بمقدور عاقل أن يحتمله. الجوع قاتل.. وضياع أموال الناس قاتل.. وانعدام وضعف المرافق قاتل.. والبطالة قاتلة.. والفساد قاتل.. واللعب على معادلة الطائفية قاتل.. ثم ها نحن أولاء أمام حكومة تخزن أو تسمح بتخزين مواد مدمرة قاتلة، تشابه فى ضروراتها أمهات القنابل وآباءها وجدودها، فى ميناء وسط عاصمة مكتظة بالسكان، وعندما يقع المحظور وتفجر مادة القتل أجساد البشر وبيوتهم ومصالحهم تخرج الحكومة وتتهم الإهمال، ويزيح كل طرف لبنانى التهمة عن نفسه ليلقيها على الطرف الآخر. وفى الآخر «رموها ع الشعب».
دعوة اللبنانيين للخضوع لـ«الانتداب الفرنسى» من جديد تعبر عن «لفتة مجازية» تحمل صفعة على وجه كل مسئول لبنانى. فاللبنانيون محبون لبلدهم، ويريدونه حراً بريئاً من الفساد والإهمال، وناعماً بما يستحقه أهله وناسه. فلا أحد فى أية دولة عربية يرى أن الاستعمار كان «قيمة أو أَملة»، فقد كان عصراً من الظلم والاستنزاف للشعوب، لكن الناس جوبهت -عقب خروجه- بما هو أتعس وأشد بؤساً بعد أن أصبح حكامها من أبنائها. مفارقة تبدو عجيبة، لكنها واقعية.
الدعوة التى قفزت فى عقل اللبنانيين بعد مأساة «الثلاثاء الأسود» بعودة الانتداب تعكس حالة البؤس التى وصل إليها المواطن بسبب فساد الحكم وجهله وتواطئه. وظنى أن المسألة فى لبنان لن تقف عند حد المطالبة بالتخلص من الطبقة الحاكمة حالياً. المسألة سوف تتجاوز ذلك إلى صياغة معادلة حكم جديدة للبنان، معادلة تبتعد عن الطائفية والمحاصصة، بما يترتب عليها من دفع الفسدة والجهلة إلى الأمام، معادلة ترتكز على إيجاد طبقة حكم تعرف كيف تحمى مواطنيها حتى تستحق الاستمرار على الكراسى، معادلة تحول لبنان من شركة إلى دولة.
على مدار سنين طويلة كان يُنظر إلى لبنان على أنه أقرب الدول العربية إلى أوروبا. زمان كان هذا القطر هو المحطة الأولى التى يجب أن يذهب إليها كل من قرر الاستقرار فى أوروبا من العرب. فهناك سيجد حياة قريبة الشبه من الحياة الأوروبية. هكذا فعل العديد من أفراد الأسرة المالكة بعد ثورة يوليو 1952، قبل أن يستقر بهم المقام فى سويسرا وفرنسا وغيرهما من الدول. واليوم وبعد أن أصبحت المخاطر على قارعة كل طريق فى هذا البلد، والموت بالمجان، بات اللبنانيون على استعداد للبحث عن أى حل لأزمتهم حتى ولو كان بعودة الاحتلال الفرنسى لديارهم.. فأحياناً ما يكون الغريب أرحم من القريب!.