الماضى وإنْ ولّى، إلاّ أنه مصاحب بصورة ما لصاحبه، فكل آدمى صغيراً أو كبيراً.. متقدماً أو متخلفاً.. يصحب ماضيه معه أينما اتجه.. هذا الماضى مهما ابتعد، مخزون بصفة عامة فى ذاكرته كأفكار وصور ومشاعر، ومحفور فى بدنه كأنسجة وأوعية وأعصاب!
لا يمكن للآدمى أن يلاقى يومه وغده بغير هذا المخزون.. لا يمكنه أن ينتزعه أو ينحيه مهما أجهد نفسه فى تنحيته جانباً أو تكلف التخلص منه أو مقاومته!.. نحن دائماً أردنا أم لم نرد نقدم ماضينا إلى قابلنا ملوَّناً بألوان «ذات» كل منا.. تلك الألوان التى تتجمع وتتراكم ويتداخل بعضها فى بعض، ويحل بعضها محل بعض فى تفاعلها مع ماضينا.. لا تتوقف عن التلون والتجمع والتراكم والتداخل والحلول مهما امتدت حياتنا وطالت أعمارنا!
هذه «الألوان» المتفاعلة فى ذواتنا ألوان متنوعة المصادر من الماضى الشخصى ومن تراكمات التاريخ بعامة، نتوارث جانباً منها، ونكتسب أغلبها تباعاً من المحيط الذى نعيش فيه، فتصبح جزءاً منا حين تقبلها «الذات» وتضمها إلى رصيدها.. تبقى مستقرة فى مخزونها إلى أن يطرأ على الذات ما يحملها على التخلّى عنها ليأخذ غيرها مكانها!
وألوان الذات المتعددة بطبيعتها تتشابه فى سمات، وتختلف فى أخرى.. يتشابه الآدميون فى عين من ينظر إلى سمة معينة، فيتشابه عنده أبناء نفس العصر أو نفس العنصر أو الأصل أو السحنة أو لون البشرة.. أو أبناء نفس الوطن أو نفس الحضر أو نفس الريف.. أو نفس الجيل أو نفس الطبقة أو الأسرة.
ومع ذلك فداخل هذه الأشباه يقع أيضاً الانقسام مع الاختلاف والتشابه.. يجرى ذلك نتيجة تشابه أو اختلاف الطبيعة أو الذوق أو التربية أو الظروف، بل قد يتعرض الفرد الواحد لمثل هذا فيتشابه مع نفسه فى مراحل من حياته، ثم يخالفها فى مرحلة أو مراحل أخرى.. يعى الفرد هذا أو لا يعيه حسب نموه أو تدهوره أو ركوده أو نشاطه، أو حسب تعرضه لتغير شديد فى ظروف، أو استقرار وثبات أحواله فى ظروف أخرى!
وبرغم هذا التراكب والتركيب الشديدين فيما يلتئم ويتجمع فى مخزون «الذات» الآدمية، فإنه لا يجعل حياة الآدمى معقدة فى نظره.. ذلك أنه لا يرى ولا يشهد ولا يواجه ولا يفكر بانتباه وعناية فيما يجرى عليه فى داخله أو خارجه من أحوال، إلاّ حالة حالة!.. ولا يشغل التفاته فى النادر مجموعة حالات يربط بينها ويُعمل التأمل فيها باحثاً منقباً عن علاجها.. فإذا فعل وربط وتأمل، فإنه يشعر عندئذ بالضيق والقلق والحيرة، ولا يزايله أو يفارقه هذا الشعور إلاّ إذا تبددت تلك المجموعة من الحالات وارتد هو إلى التعامل مع واقعه المعتاد شيئاً فشيئاً كمألوفه ومألوف من سبقوه!
ويبدو أنه من هنا كان عشقنا للبساطة والبسيط والتبسيط، ونفورنا العام فى الوقت نفسه مما نصفه تارة بالتكلف ونصفه تارة بالافتعال والتصنع.. نسبغ عليه هذه الأوصاف والنعوت حين يكون تذوقه أو فهمه أو قبوله فى احتياج إلى إجهاد ومكابدة ومشقة!!
ومع ذلك فإن ما يبدو بسيطاً مبسطاً لدى البعض، قد يكون شديد التعقيد لدى غيرهم تبعاً لاختلاف قدرات المخ وسعة شبكة الأعصاب عن نظائرها لدى الغير!
ولكن حين يتجاوز الآدمى حدود الحياة العادية المألوفة إلى محاولة استبطان ومعرفة شىء من حقيقة أجهزة بدنه ونفسه وعقله بقدر أكبر من التفصيل، وكيف تؤدى وظائفها وتقوم بعملها ومتى وكيف تختل وكيف تعالج أو يواجه اختلالها عندئذ سرعان ما تختفى تلك البساطة التى نعشقها ونرتاح إليها، ويحل محلها تركيب وتعقيد شديدان مجهدان.. ويكتشف الباحث فى ذلك أنه معرَّض فى كل خطوة من خطوات البحث والعلاج للأخطاء والأخطار، ويكتشف إن لم يكن قد اكتشف سلفاً أن ما يسمى بالقوانين العلمية لا يعدو أن يكون «تقريبات» فقط، وأنها بحكم ذلك تحتاج دائماً لمراجعة الفحص والضبط والمزيد من التأكد.. فربما بانت فيها مع المراجعة عيوب وأخطاء كانت خافية، مما يستوجب إعادة النظر فيها، وقد يؤدى ذلك إلى إدخال تعديلات عليها أو إلغائها وإحلال ما يظهر مجدداً بالبرهان المقنع أنه أكثر قرباً من الصحة والدقة!! وهكذا، لا ينتهى المزيد من البحث والتمحيص والفهم إلاَّ إلى مزيد آخر من البحث والفهم وبلا نهاية ما دام الآدمى مواظباً باقياً على إعمال فكره وبحثه وتأمله ملتزماً الرغبة فى المزيد من المعرفة وفهم الحقيقة!
أما إذا كَلَّ الإنسان أو ملَّ وتوقف، وقنع بما وصل أو وصل السابقون إليه، فإنه يبدأ حينئذ مرحلة أو مراحل الرجعة والهبوط والتدهور.. قد تقصر مدته إذا عاد وأفاق، وقد تستغرق آماداً وقروناً إلى أن يفيق الآدمى وينتبه ويلتفت إلى ما مُنح من استعدادات وملكات فيعود إلى استنفارها وإعمالها واستخدامها وتنميتها والاعتزاز بها!
الميل إذاً إلى البساطة والتبسيط هو فيما يبدو ميل إلى الكسل واللهو والراحة البدنية والنفسية والعقلية.. ولعل فى هذا الميل شيئاً من الغريزة أو الطبيعة لمقابلة المجهود أو محاولة تعويض ما يبذله الآدمى من عناء حينما يصطنع الجد والاجتهاد!.. بيد أن هذا الميل (الغريزى) فيه قابلية هائلة للمغالاة والإسراف ثم الاعتياد عليها، خاصة بين كتل العاديين الذين تتحكم فيهم عادات السلوك المألوف على ما هى عليه!!
على أنه من المهم أن ندرك أنه ربما أدى تفشى هذه الموجة بين الكتل وشيوع الميل فيها إلى الكسل والراحة، وتفضيل اللهو ربما أدى إلى سد منافذ وفرص الاجتهاد لدى الأقلية المستعدة المهيأة الراغبة فى الكدح، القادرة عليه، وأغراهم فى غمرة سيادة هذا التيار بمجاراته، وهيأ لهم الانصراف إلى استخدام ما لديهم من الملكات لا فى الكدح والبذل والعطاء، ولكن فى أخذ نصيب أكبر من الترف والمتعة والسلطة والجاه.. حينئذ يجد الانتكاس العام طريقه الواسع الرحب، ويتجه المجتمع بأسره إلى منحدر التراجع والهبوط!!.. يحدث ذلك حين يتملك الجمود أو التجمد من المجتمع، فيصير كل ما فيه ومن فيه ثابتاً مقرراً معروف البداية والنهاية، بما لا سبيل إلى تبديله أو زحزحته أو تحريكه!.. هنالك تتراجع همم وإرادات وعزائم الناس، فلا يطلب الخيّرون أكثر من السمعة الطيبة وسعة الرزق، ولا يكف غير الخيّرين عن طلب الزيادة، إما فى المال أو فى السطوة أو فيهما معاً!!.. تختل بوصلة التمييز بين الحسن والقبيح، وبين الخير والشر، وبين الجاد والمظهرى، ويغفل اللاهون عن نداء الحق تبارك وتعالى: «يَا أَيُّهَا الإنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاقِيهِ» (الانشقاق: 6).
مع هذا الضياع المصاحب للانصراف عن الكدح والبذل والعطاء تتحوصل وتتمكن عوامل النحر والتحلل التى تلازم حتماً كل ما يتوقف عن النمو والزيادة والتطور والتطوير فى عالم صائر متحرك على الدوام!.. من المخيف أن حالة التراجع والنحر والتحلل قد تستمر زمناً يطول إذا قسنا بمقاييس الماضى وعَوّلنا على سوابق التاريخ التى تورى لنا أن هناك من فترات التراجع والتدهور ما امتد قروناً قبل أن تنحسر موجته لتفسح المجال لحركة صعود جديدة تمضى بالإنسان إلى حيث يجب فى هذا الكون الذى لا يكف عن الحركة والاطراد والنماء!