فى سبتمبر 2012.. كان بمقدوره أن يرتدى «البيجامة» ويجلس فى بيته معززاً مكرماً.. غير أنه من أصحاب الأيدى الخشنة.. يصحو من نومه بعد الفجر على دعاء «يا رزاق يا كريم».. فكيف يركن إلى الراحة، وهو الذى رأيته يوماً يناقش مهندسى وقيادات «المقاولون العرب» فى «نصبة الخشب على السقالة»، و«محارة الحوائط»، وورديات العمال..؟!
عن المهندس إبراهيم محلب أكتب.. عن الرجل الذى استقال من شركة «المقاولون العرب» فى عهد «الإخوان».. وسافر إلى السعودية للعمل، حتى لا يستريح.. ثمة رجال يفضلون الموت واقفين.. لذا كان طبيعياً أن يقول لى «محلب» حين هاتفته فى «السعودية»: أنا مشيت من بيتى - يقصد «المقاولون العرب»- علشان ما أقدرش أشوفه بينهار.. جيت هنا أشتغل، لأنى ممكن أموت لو ما اشتغلتش»!
يومها.. ظننت أن «محلب» سوف يواصل مشوار البناء فى «السعودية».. فأشفقت على مصر، لأنها اعتادت إهدار كفاءات وخبرات وطنية بدم بارد.. غير أن «محلب» عاد إلى بيته -مصر- عندما أطلقت صافرة الإنقاذ.. يومها سألته مرة أخرى: لماذا عدت وزيراً للإسكان فى مرحلة يفر منها الكثيرون؟!.. فنظر لى بدهشة، وكأنه يستنكر السؤال، وقال: «يا مجدى.. إزاى أرفض أحارب.. إحنا فى معركة.. وأنا فى التجنيد الإجبارى.. يعنى انت خايف أتشتم؟!.. وإيه يعنى.. طيب ما الجندى والضابط بيموت على الجبهة.. هاشتغل حتى لو قذفونى بالطوب»..!
ولـ«الطوب» قصة طويلة فى حياة إبراهيم محلب.. قال لى الرجل ذات مرة «الطوب من تراب الوطن.. يمسك به البناء بحنو، ويعلى به جداراً.. ويمسك به الفاشل ليقذف الناجح.. ويمسك به الخائن ليرمى وطنه.. ويمسك به المتخاذل ليبنى مطباً يعيق العمل والإنتاج».. و«محلب» مهندس.. ومقاول.. وعامل «مبانى».. ولا يخشى الصعود على «السقالة».. ومن يعملون معه لا ينامون، لأنه يؤمن بنظرية «العمل فى الموقع».. لذا لم يكن غريباً أن يندهش البعض من فرط حركته وتحركاته.. غير أنهم لا يعرفون أن فى المسألة «جين» يسرى مع الدم فى العروق.. فثمة رجال لا تسكن عقولهم وأجسادهم ما داموا أحياء.. و«فى الحركة بركة».. هكذا قال لى «محلب» حين سألته: كيف تقضى يومك؟!.. وزاد قائلاً: «تخيل مش عارف.. أنا باصحى الصبح بدرى علشان أشتغل.. وجدولى فيه خطط وأفكار وبرامج تنفيذية.. والأهم أن فيه ناس.. بشر.. مواطنين.. مشاكل.. وحلول.. أنا مجتهد.. وباحب الشغل.. وباحب بلدى.. بس المشكلة إن ساعات اليوم مش بتكفى»..!
ربما يعاتبنى «محلب» لأننى كتبت عنه اليوم.. وربما لأننى رويت ما كان يقوله لى فى جلسات ثنائية.. غير أن للرجل حقاً وشهادة فى لحظة قد يعود فيها للعمل فى أى مكان أو موقع.. وربما أيضاً يكون مناسباً أن أروى لكم ما حدث فى صباح تفجير مديرية أمن القاهرة قبل عدة أشهر.. كان «محلب» وزيراً للإسكان.. واهتزت مصر كلها على «زلزال التفجير».. وكنت على اتصال -لحظة بلحظة- مع محررى «الوطن» الذين هرولوا إلى موقع المديرية للتغطية المباشرة.. سألت أحدهم هاتفياً: كيف يبدو المشهد عندك؟.. فأجاب: «لا أحد هنا مع الضباط والجنود سوى إبراهيم محلب.. جاء بعد التفجير بدقائق.. يبدو وجهه حزيناً.. حتى إنه لم يمشط شعره.. وارتدى أى ملابس.. قميص وبنطلون وجاكيت.. بعض رجال الأمن كانوا -لحظتها- يترددون فى الصعود إلى المبنى، أما (محلب) فقد هرول على السلالم لتفقد المديرية وخسائرها»..!
كان «محلب» المسئول الوحيد فى موقع التفجير.. فطلبت من المحرر أن يعطيه الموبايل.. كان «ينهج» بانفعال شديد.. سألته «إيه الأخبار؟!».. تحشرج صوته وأجهش بالبكاء، قائلاً «ذنبهم إيه الولاد العساكر اللى ماتوا؟!.. لا حول ولا قوة إلا بالله.. والله يا مجدى إن مصر ستنتصر، حتى لو قتلونا جميعاً».. يومها قال لى المحرر بلهجة فخر وإعزاز وتقدير: تصدق إن «محلب» وصل موقع التفجير فى سيارة توقفت بعيداً بسبب كردون الحواجز، فهبط منها وهو يجرى بسرعة مذهلة نحو المديرية.. فقلت له «هذا هو إبراهيم محلب الذى أعرفه منذ سنوات طويلة.. لم يتغير.. ولن يتغير»!