أخشى ما أخشاه أن يدفعنا الوباء الحالى إلى مزيد من الانغلاق والرؤى الأحادية. ويأتى الوباء ليذيّل عقداً كاملاً فى مصر من القلاقل والتغيرات والتقلبات والتحولات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والثقافية والتى ما زالت فى طور التغير. وقبلها عقود لا تقل عن خمسة جرى فيها الكثير من التجريف الثقافى والتدمير التعليمى واتباع منهج «التلصيم». وهو منهج سهل وبسيط ومريح، حيث يعتمد على سد القطع بالصمغ، وتسكين الألم بمسكّن مؤقت، وترميم الشرخ بطبقة أسمنت معروف للجميع أنها ستتفتت وتنهار إن لم يكن اليوم فغداً.
وقد حان «غداً» وانهارت كل جهود «التلصيم» السابقة وتفجرت محتويات كل الكوارث الغارقة والمختبئة تحت غطاء البالوعة الكبير فى وجوهنا، ناهيك عن كوننا جميعاً أعضاء فاعلين بل ومؤسسين فى تلك الكوارث التى نشكو منها. وبينما البعض -وليس الكل- يحاول أن يعيد بناء ما تهدَّم على أسس جديدة وتصحيح المسارات الكثيرة التى انحرفت وتحللت، إذ بالوباء المستجد يتربص بنا وبجهودنا. صحيح أن جهود تشييد البنى التحتية الخرسانية والأسمنتية جارية على قدم وساق، وما أُنجِز منها حتى اللحظة يفوق ما شهدته مصر على مدار عشرات الأعوام، إلا أن البنى الأساسية البشرية هى المرشحة لأن تعانى أكثر.
فنحن نجتر أحزان ما لحق بالشخصية المصرية من تشوهات وما لحق بالهوية من مسخ وقبح واعتناق هويات أخرى لا تمت لنا بصلة. وبعضنا يرى بعينيه نتيجة عقود من التلاعب بالدين وترك أبواب البلاد وأدمغة العباد مفتوحة على مصاريعها على مدار ما يزيد على 50 عاماً لتجار الدين ليتلاعبوا بها وبهم، تارة لمصالح خارجية وأخرى باعتبار الدين أداة كلاسيكية معروفة من أدوات الحكم.
ورغم أن مصر أدارت ملف الوباء حتى اللحظة بأفضل شكل ممكن فى ضوء المعطيات والإمكانيات، إلا أن استمرار تأجيل بناء البنية الأساسية البشرية المصرية من شأنه أن يضاعف من أزمتنا الثقافية والسلوكية والأخلاقية. فالآثار السلبية لكورونا وهجماتها الشرسة المتكررة لن تقف عند حدود الإصابات والوفيات والإغلاقات التى تضرب أنظمة اقتصاد العالم فى مقتل فقط، بل لكورونا أثر رهيب على العالم كله ألا وهو الانغلاق.
توقف أو تباطؤ حركة السفر بين دول العالم، والموت الإكلينيكى لحركة السياحة وتنقل البشر بحرية بين الدول، ناهيك عن تقلص فرص التبادل التعليمى والثقافى وغيرها أمور من شأنها أن تزيد انغلاق الشعوب على نفسها. لكن أثر هذا الانغلاق سيكون أكبر فى الشعوب التى كانت تحتاج فى الأصل إلى الانفتاح على غيرها من ثقافات، ونحن فى هذه القائمة.
المجتمع المصرى الذى كان حتى ستينات القرن الماضى مكاناً تنصهر فيه جنسيات وديانات وأعراق عدة ساهمت فى صناعة أفق ووعى متفتحين لدى المصريين صار شديد الانغلاق. ومع تنامى الغزو الثقافى المرتدى ملابس الدين منذ السبعينات، ظنت الملايين من المصريين أن الانفتاح على الآخرين شر، وأن التعرف إلى ثقافات الغير خطر، وأن التعددية كارثة كبرى. وأغلب الظن أن ذلك التوجه «الفكرى» ساهم فى تجذير الشعور الكاذب بالفوقية لدى البعض لمجرد انتمائه إلى جنسية أو معتقد بعينه. وسبب «كذبه» أنه يرتكز على هشاشة وضعف وشعور بأن كل ما ومن هو مختلف يعرضه للخطر. ومن يتعرض للخطر تدفعه غريزة البقاء إلى الدفاع عن بقائه، إما باغتيال ثقافات الغير معنوياً أو بتشويه الآخر المختلف ووضعه فى خانة الخائن أو العميل أو الكافر، إلخ، أو بسفك دمائه لأن اختفاءه يعطيه شعوراً كاذباً بأنه وثقافته ومعتقده فى مأمن من خطر الانقضاض.
وبينما تسن كورونا أسنانها استعداداً لمعاودة الانقضاض علينا، وما يفرضه ذلك من إجراءات إغلاق معلنة أو غير معلنة، وتقييد وتكبيل حركة السفر والتبادل بين الدول وبعضها، سيتعمق شعور كثيرين فى بلدنا بأن الأصل فى الأشياء هو التشابه لدرجة التطابق. ولا ننسى أن السنوات العشر الماضية، منذ أحداث يناير 2011 أدت إلى تقلص حركة السفر إلى مصر وإغلاق نافذة مهمة كانت تعطى القاعدة العريضة فرصة لمعرفة أن الكوكب عليه ناس لهم ثقافات وأشكال وعادات تختلف عنا.
حتى النوافذ العنكبوتية التى تتيح للمستخدم التجوال فى شمال الأرض وجنوبها، شرقها وغربها فإن استخدامها صار يواكب ميول الانغلاق وليس العكس. بمعنى آخر، فإن المستخدم الذى يعتقد بأن العرب هم الأكثرية فى هذا الكون سيتجول فى مواقعهم وصفحاتهم. ومن تربى على أن المسيحية دون غيرها هى دين الحق سيلتزم صفحاتها ومواقعها، وهلم جرا.
وضعنا الحالى فى ضوء تطورات الوباء، وما يجرى فى الكوكب، وميل الدول إلى مزيد من الانغلاق على نفسها يحتم علينا أن نهرع فى تعويض الفجوة الثقافية والمعرفية الآخذة فى الاتساع حتى لا ينتهى الوباء لنفاجأ بأن جنون العظمة قد تمكّن منا جميعاً وأننا ننكر وجود آخرين خارج حدودنا المعرفية.