زمان، حتى نحو عشر سنوات مضت، كان الصحفى يشعر بأنه مختلف. وفى الاختلاف سر النجاح والتميز والتفرد. صحيح أن المهنة لطالما حفلت بمن أساء استخدام سلطة الإشهار بغرض التشهير لأغراض شخصية أو مصالح سياسية أو ما شابه، لكن القاعدة العريضة التى كان معمولاً بها فى عالم الصحافة هى أن المهنة مختلفة لأنها تنقل صوت الحق إلى حد كبير، وأداة توعية منزهة عن الأغراض قدر الإمكان، ووسيلة مراقبة وتقويم للحكام قدر المستطاع.
والصحافة -سواء الورقية أو التليفزيونية أو الإذاعية أو حتى العنكبوتية- لا يُفترض أن تكون «بعبع» إلا لمن يعانون من وجود «بطحة» على رؤوسهم. وجميعنا يعلم أن تاريخ الصحافة حافل بأنظمة استخدمت الصحافة «بروباجاندا» لكسب ثقة شعوبها أو تخويفها من مجهول إن هى رحلت، أو حشدها لحرب أو مواجهة أو منازلة لن تحظى بقبول فى الأحوال العادية. وجميعنا يعلم أيضاً أن تاريخ الصحافة حافل كذلك بدول صنعت منصات إعلامية قوية عوّضتها عن ضعف قوتها العسكرية أو الاستراتيجية أو الجغرافية أو كل ما سبق. كما أننا نعلم أن الصحافة تمكنت من إنقاذ أنظمة من الانهيار وأدت بأخرى إلى الانهيار والزوال. وجزء لا يتجزأ من عمل الصحفى -شأنه شأن الطبيب- هو تكوينه النفسى وتركيبته القيمية. وكما أن هناك طبيباً استثناء يُفشى سر مريض، أو يُخضعه لجراحة هو فى غنى عنها، أو يتباطأ فى إغاثة مريض، فهناك كذلك صحفى يتخصص فى صحافة الفضائح بغية تحقيق مكاسب له أو لصالح الغير، أو يقبل ظرفاً فيه مبلغ مالى على سبيل الشكر على تغطية إيجابية، أو يتعامل مع عمله باعتباره «شغلانة وخلاص» حيث لا تدقيق أو حياد أو مصداقية.
هذه المقدمة الطويلة الغرض منها التأكيد على أن الصحافة تنتمى لنوعية المهن الإنسانية ذات الأهداف السامية شأنها شأن كل المهن المتعلقة ببناء الإنسان وضمان سلامته وتوعيته وتقويمه بالمعلومة والعلم لا بالوعظ والإرشاد. لكنها فى الوقت نفسه مهنة يعمل بها بشر يحتاجون الأكل والشرب وتعليم أبنائهم والارتقاء بمعيشتهم، وتوفير ظروف عمل معيشية معقولة لهم مع تزويدهم بالتدريب والتأهيل اللازمين لضمان ارتقاء المهنة وقبلها التدقيق فى من يعمل بها، وهذه أمور حيوية.
وبينما أكتب هذه السطور أتابع مسلسل «التاج» The Crown البريطانى الذى يتناول جانباً من تاريخ العائلة المالكة فى بريطانيا، وأستمتع بدور الصحافة وشكل العلاقة الأشبه بالقط والفأر بينها من جهة وبين القصر الملكى من جهة أخرى والحكومة من جهة ثالثة. العلاقة أشبه بسيمفونية إثارة ومتعة. قصر ملكى راسخ لكن يتعرض للقيل والقال وموجات معارضة ومحاولات إصلاح، وحكومة تربطها علاقة حب وكراهية مع القصر لكنها أشبه بالزواج الكاثوليكى، وصحافة تتقن قواعد لعبة الضوابط والتوازنات Checks & Balances.
الانتقاد اللاذع فى الصحف للعائلة المالكة وأسلوب حياتها وإنفاقها والكم الهائل من القصور الملكية وما تكبده لدافع الضرائب من أثقال لم يؤد إلى حرب شعواء تُستخدم فيها أدوات مادية، لكنها حرب شعواء يتبارى الجميع فى استخدام أدوات التفكير والتخطيط والمراوغة فيها. الصحافة تكتب وتنتقد، والقصر يدافع ويراوغ ويحاول بين الحين والآخر أن يداويها بالتى هى الداء، فيكسب الجولة تارة وتنقلب عليه تارة، وهلم جرا. أما الحكومة، فمواقفها تتغير وتتبدل بحسب توجهاتها وأيديولوجيتها بين اليمين تارة واليسار تارة.
ورغم ذلك، فإن العائلة المالكة لم تسقط على مدار عقود من الشد والجذب بينها وبين الصحافة. وأغلب الظن أنها لن تفعل على الأقل فى المستقبل القريب. ورغم ذلك أيضاً، فإن أصوات الانتقاد مهما بلغت من لذوعة أو ميوعة أو حدة أو ليونة لم تؤد يوماً إلى مطالبات شعبية عارمة بإسقاط العائلة المالكة أو تحويل بريطانيا جمهورية. وأحدث استطلاع أجرته شركة «يو جوف» أو You Gov المتخصصة فى أبحاث الرأى العام حول إذا ما كانت بريطانيا يجب أن تحتفظ بالعائلة الملكية أم لا، قال واحد فقط بين كل خمسة بريطانيين إنه يؤيد إلغاءها، وذلك رغم أن العائلة كانت تعانى أزمتين طاحنتين وقتها: الأولى خاصة بفضيحة الأمير أندرو وعلاقته برجل الأعمال الأمريكى المنتحر جيفرى إبستين المتهم بارتكاب جرائم جنسية، وكذلك إعلان الأمير هارى وزوجته راتشيل ميجان التخلى عن الحياة الملكية.
غاية القول أن الصحافة مهنة عظيمة، يحاول البعض شيطنتها أحياناً، ويضفى البعض عليها صفات ملائكية أحياناً. لكنها تظل مهنة ذات طابع خاص، وتحتاج لأشخاص ذوى طباع خاصة يعملون بها. كما أن الصحافة القوية سمة الدول القوية، والعكس صحيح. ومحاولات تقويضها تعنى إما الخوف منها، أو أنها وصلت حداً من الضعف والتحلل والانهيار ما يجعلها خطراً داهماً على المجتمع. وكلتا الحالتين تعنى أن هناك مشكلة فى الصحافة ينبغى مواجهتها من أجل حلها جذرياً وليس اقتصاصها أو تدجينها.