فى مقطع فيديو لم تتجاوز مدته تسع ثوانٍ، قالت سيدة مصرية تكشف ملامح وجهها عن تجاوزها سن الثمانين من العمر وتجلس على كرسى متحرك لمراسل إحدى الفضائيات أثناء تغطية انتخابات الرئاسة الأخيرة: طبعاً لازم كلنا ننتخب وإلا الإنجليز «يخشوا»........ مكان النقاط لفظ عامى خارج نطقته السيدة بعفوية بالغة، وبطبيعة الحال لم تتم إذاعة الفيديو لكن المقطع تم تسريبه.
ما قالته تلك السيدة فى ثوانٍ معدودة أراه يكشف عن عمق علاقة المصريين بوطنهم، ورغم أنها أشارت إلى «الإنجليز» تحديداً، لكن وعيها وحسها الوطنى وفطرتها كشفوا عن رفضها لفكرة تدخل الآخر الأجنبى فى الشأن الداخلى المصرى.
هكذا صفعت السيدة المصرية بمقولتها (رغم اللفظ الخارج) كل من يتخيل أن الاستقواء بالخارج يمكن أن يكون سبيلاً لاقتناص الحكم فى مصر رغم إرادة المصريين، وها هى التجربة ماثلة لم تبارح أذهاننا.. جماعة الإخوان الإرهابية تآمرت مع الأمريكيين وسطت على الحكم، وأسقطها المصريون فى أعظم ثورة فى التاريخ بعد عام واحد فقط.
الشعب المصرى فى مواجهة التدخل الخارجى فى شئونه الداخلية، قرر لنفسه مساراً خاصاً واستثنائياً ومتفرداً، ولن يضيع فرصة واحدة لإثبات هذا التفرد وسط عديد النماذج المتهالكة التى تحيط بنا، واستخلص الدرس، ويعرف مدى خطورة التدخلات الإقليمية فى الدول العربية، والتى لم تحقق إلا الخراب، والنماذج كثيرة من ليبيا إلى العراق وسوريا ولبنان واليمن، وغيرها، لذلك يستطيع دوماً أن يبهر حتى العاجزين عن الانبهار، ولذلك يستطيع كل مرة أن يقدم لمن يريدون أن يلقنوه الدروس دروساً مضادة يتلقونها كصفعات على الخدين الأيمن والأيسر.
وبهذه المناسبة فإن النظام المصرى الحاكم حالياً تخلص من عقدة الخوف التى تملكت أنظمة سابقة من منظمات مشبوهة تدعى الدفاع عن حرية الصحافة والإعلام مثل «مراسلون بلا حدود»، وأخرى تزعم الدفاع عن حقوق الإنسان مثل «هيومان رايتس ووتش».
للتذكرة فقط جزيرة تايوان كانت جزءاً لا يتجزأ من جمهورية الصين الشعبية، لكن استقواء «القوميين» الصينيين بالولايات المتحدة بعد هزيمتهم أمام الشيوعيين حوّل تايوان إلى دولة مستقلة مقتطعة من الوطن الأم، وهذا الانقسام الوطنى فى الصين ليس الحالة الوحيدة الناجمة عن الاستقواء بالأجنبى فى آسيا، فوجود الكوريتين مثال آخر، وتقسيم الإرث الاستعمارى البريطانى فى شبه القارة الهندية إلى عدة دول مثل باكستان وسيرلانكا مثال ثالث، كان الاستقواء بالأجنبى عاملاً رئيسياً فيه، ولولا الهزيمة الأمريكية فى فيتنام التى وحدتها لكانت فيتنام اليوم شمالية وجنوبية كمثال رابع، وفى هذه الحالات وغيرها ما زال الاستقواء بالأجنبى هو السبب الرئيسى فى الانقسام الوطنى واستمراره.
واستقواء حركة حماس بالأجنبى والخضوع لشروطه ما زال هو العامل الرئيسى فى الانقسام الوطنى الفلسطينى واستمراره وفشل جهود الاستجابة للمطالبة الشعبية بإنهائه، وإذا ما استمر هذا الاستقواء سيطول عمر هذا الانقسام إلى عقود من الزمن، وقد نجد يوماً وزارة لشئون قطاع غزة فى حكومة رام الله، ووزارة نظيرة لها لشئون الضفة الغربية فى حكومة غزة!، والانقسام الفلسطينى ليس إلا مجرد جزء من ظاهرة عربية مستشرية كالسرطان فى جسد الأمة قادت إلى «الانفصال» وتمهد لمشاريع انفصال جديدة، بسبب استقواء بعضها بالأجنبى، وبخاصة الأمريكى.
بعيداً عن كل هذا «التنظير» السياسى، نجد أن علاقة المصريين بوطنهم لها خصوصيتها التى التقطها وأبدعها شعراً الشاعر والأديب مصطفى صادق الرافعى قبل مائة عام فى النشيد الوطنى لمصر من 1923 حتى 1936، بدأ «الرافعى» قائلاً:
اسْلَمِى يا مِصْرُ إنِّنَى الفدا ذِى يَدِى إنْ مَدَّتِ الدّنيا يدا
أبداً لنْ تَسْتَكِينى أبدا إنَّنى أَرْجُو مع اليومِ غَدَا
وَمَعى قلبى وعَزْمى للجِهَاد ولِقَلْبِى أنتِ بعدَ الدِّينِ دِيْن
هل يعى «المتشعبطين» بحبال الخارج الدايبة الدرس.. أم ما زالوا فى حاجة إلى مزيد من الصفعات؟!