اهتمام الإعلام، وكذلك العديد من مؤسسات المجتمع المدنى، بمسألة التحرش بالفتيات والسيدات خلال الأسابيع الأخيرة يرقى إلى درجة الاستفزاز، فالبعض لم يعد لديه شغلة ولا مشغلة سوى الحديث عن هذا الموضوع، خصوصاً بعد سقوط واحدة من الفتيات ضحية برصاص متحرش، لمجرد أنها حاولت الدفاع عن عرضها.
ولست أقلل بالطبع من أهمية هذا الموضوع؛ لكن من المؤكد أن الإفراط فى الحديث يبقى قليل المعنى فى ظل وجود موضوعات عديدة أكثر أهمية منه. يكفى أن نستشهد فى هذا السياق بمثال واحد يتعلق بضحايا حوادث المرور فى مصر. لقد أعلنت منظمة الصحة العالمية مؤخراً أن مصر تعد من أسوأ 10 دول فى حوادث الطرق على مستوى العالم، إذ يبلغ عدد ضحايا الحوادث 12 ألف قتيل سنوياً، بمعدل قتيل و4 مصابين وحادثتين فى الساعة الواحدة، والسؤال: أين هذا الموضوع الخطير من مساحات اهتمام الإعلام ومؤسسات المجتمع المختلفة؟ ولماذا لم يخضع هذا الموضوع لنفس الاهتمام الذى قوبل به موضوع التحرش، خصوصاً أننا على مقربة من نهاية المائة يوم الأولى من فترة حكم الرئيس محمد مرسى، وقد وعد بحل خمس مشكلات خلالها، من بينها مشكلة المرور؟. الواضح أن البعض يحاول الهرب من معالجة ملفات المشكلات الحقيقية التى تعصف ببنيان هذا المجتمع من خلال التمحك بمعالجة مثل هذه الموضوعات، خصوصاً أن قطف ثمار الكلام فى موضوع مثل «التحرش» لذيذ ولطيف ولا يسبب أية مشكلات لأحد. فحديث التحرش لا يحك فى رئيس دولة أو رئيس حكومة أو وزير أو محافظ، إنه يحك بصورة مباشرة فى المواطن الذى لم «تربه» الأهالى، ولا الأيام والليالى، وبالتالى يمكن القول بأن الحديث المبالغ فيه عن التحرش يشكل نوعاً من أنواع التحرش الصريح بالمواطن، وربما كان ذلك هو سر استمتاع الكثيرين بتناوله، فى الوقت الذى يتم فيه إهمال من يموتون بالمجان كل يوم، سواء كان الموت غدراً على الطرق، أو قهراً فى المستشفيات، أو ردماً تحت أنقاض البيوت، أو حرقاً أمام قصر الرئاسة. أؤكد من جديد أن موضوع التحرش قد يكون له أهميته؛ لكنه ليس الموضوع الأهم على الأقل فى الفترة الحالية، والعاقل من يعرف كيف يجدول ويرتب أولوياته، كما أن حل هذه المشكلة لن يرتبط بمجرد تناولها فى استديوهات، أو ندوات، أو أى نشاط آخر يقع فى دائرة «أنشطة السبابيب»، بل بحل مشكلات اقتصادية واجتماعية وتربوية عديدة، تتعلق بصورة مباشرة أو غير مباشرة بهذا السلوك. إن احتشاد العديد من البرامج وراء هذا الموضوع يحوّل قنوات التليفزيون إلى ما يشبه السيرك الذى يقوده بلياتشو، يكبّر «بقه» مرة، و«منخاره» أخرى حتى يستطيع التحرش بالمشاهدين.