فى مقالات سابقة نشرت فى هذه الصحيفة الموقرة وصفت ليبيا بأنها صارت لا دولة، وأصبحت بالنسبة لمصر مصدر تهديد، بعد أن كانت بمثابة عمق استراتيجى ومجتمعى واقتصادى لمصر، كما حذرت من أن المصريين هناك يتحولون إلى رهائن لا حول لهم ولا قوة، وأن على الذين يسافرون إلى هناك أن يضعوا فى اعتبارهم أسوأ الاحتمالات. الآن لم تعد ليبيا مصدر تهديد لمصر وحسب، بل صارت أزمة مركبة لدول الإقليم، لكل منها نصيب، فتونس مثلاً تعانى من تدفق الهاربين من كل الجنسيات تقريباً، وأكثرهم مصريون، ونظراً لإمكاناتها المحدودة فهى تتعامل مع الموقف بأسلوب العاجز، تغلق الحدود أحياناً، وتمنع الفارين من العبور وتضربهم أحياناً أخرى، كما تسمح للبعض بالعبور، إن وجدت لهم وسيلة تأخذهم مباشرة إلى بلدانهم. أما الجزائر فالوضع الليبى أصبح يمثل لها عبئاً أمنياً وتهديداً جدياً، حسب التعبيرات التى استُخدمت فى بيانات رسمية جزائرية وصفت الوضع الليبى ومهدت لإجراءات أمنية مشددة على الحدود مع ليبيا تحسباً من تسلل عناصر إرهابية إلى الداخل. وبالنسبة لنا فى مصر، فالصورة واضحة وليست بحاجة إلى شرح كبير، فالحدود مع ليبيا أصبحت فى الوضع فائق الاستعداد، والإجراءات الأمنية باتت مشددة، واحتمالات مواجهة عناصر إرهابية تحاول التسلل إلى الداخل المصرى فى حدود 100% ولا أقل من ذلك.
ما تفعله مصر والجزائر من إجراءات أمنية مشددة هو الحد الأدنى الذى لا تنازل عنه، فالمسألة تعنى أولاً وأخيراً حماية البلاد من شرور الإرهاب ومخططاته التى تستهدف الدولة ذاتها. وفى الخلفية هناك تعاون أمنى استخباراتى معلوماتى بات جاداً واحترافياً. وفى الخلفية أيضاً أن الوضع الليبى أصبح أكثر تعقيداً وانفلاتاً حتى إن المرء يصعب عليه معرفة من يقاتل من فى الصباح، ومن يقاتل من فى المساء. والدرس البارز هنا يتلخص فى أن غياب المؤسسات وانتشار السلاح وتغلغل المنظمات الإرهابية المدعومة من الخارج وغلبة ضيق الأفق لدى العديد من القيادات وفراغ السلطة تؤدى جميعها إلى انهيار الدولة والمجتمع والتورط فى حرب أهلية بائسة الكل فيها مهزوم مهما سيطر البعض على أراضٍ أو مبانٍ أو مطارات أو حقوق نفط أو موانئ.
والسؤال الذى يفرض نفسه هو إلى أى مدى يمكن لمصر أو للجزائر أن تتحملا مثل هذا الوضع الليبى، والسؤال نفسه مطروح على الأوروبيين بالقوة نفسها، وإلى أى مدى يمكن لأوروبا أن تتحمل انهيار الدولة فى ليبيا ومعها ثرواتها النفطية والمالية؟ أطرح هذين السؤالين وفى ذهنى ما صرح به عمرو موسى، فى بيان مكتوب بحرفية، وحذر فيه من تأثير صراع الفصائل والطوائف فى ليبيا على أمن مصر، التى قد تلجأ إلى استخدام حق الدفاع عن النفس، ولكن بعد البدء فى نقاش مصرى واسع المدى لتوعية الرأى العام بالمخاطر القائمة، حسب عبارات البيان. ويلاحظ هنا أن صدور هذه التحذيرات القوية من سياسى محنك كعمرو موسى تزامن معه، أو بالأحرى تصادف معه، صدور تقرير فى صحيفة التايمز البريطانية ذكر أن المملكة السعودية نشرت قوات مصرية وباكستانية على الحدود مع العراق خوفاً من هجوم محتمل لقوات داعش. وهو ما نفته المصادر الرسمية المصرية. بيد أن التقرير لا يخلو من دلالة، وهى أن هناك خطراً محتملاً على المملكة السعودية من تحركات داعش الإرهابية، وكانت المملكة نشرت ما يقرب من 30 ألف جندى سعودى على الحدود مع العراق قبل ثلاثة أشهر، ومن وحى خبر التايمز فإن مصر وباكستان قد تساعدان فى مواجهة هذا الخطر. ومعروف أن السعودية منذ أربعة أعوام أنشأت نظاماً أمنياً حدودياً مع العراق واليمن عالى التقنية ومجهزاً بكاميرات فوق حمراء وأجهزة استشعار حديثة ونظام مراقبة لا يهدأ ولو لدقيقة واحدة. وتاريخياً فإن التعاون العسكرى السعودى الباكستانى يعود إلى الستينات من القرن الماضى، وهو تعاون واسع المدى وصل فى فترات معينة إلى نشر وحدات باكستانية كاملة جيدة التدريب على الحدود السعودية مع اليمن وعمان. وبالتالى فإن قصد الجريدة البريطانية من نشر هذا التقرير يتلخص فى كلمة واحدة وهو أن هناك خطراً كبيراً، وأن مواجهته سوف تتم فى إطار مساعدات خارجية من دول شقيقة. وسواء كان ذلك من قبيل التقرير أو المبالغة فالأمر يصب فى حقيقة مدهشة وهى أنه لا مناص من الدول العربية التى ما زالت قادرة على حماية نفسها، أن تتحرك فى إطار جماعى.
وفى مقال الأسبوع الماضى طرحت ضرورة المواجهة الجماعية لخطر الإرهاب، وناديت بأن تفكر مصر فى تصور شامل تبادر به وتطرحه على الدول العربية، ومرة أخرى أرى التطورات المتلاحقة تؤيد هذا الاستنتاج وتؤيد هذه الضرورة. لكن الأمر لا يخلو من بعض استدراكات، أولها فإذا كان عمرو موسى يرى الوضع الليبى قد يدفع مصر إلى التدخل العسكرى لحماية الأمن القومى المصرى، حتى ولو كان ذلك فى ظل رأى عام مؤيد لهكذا سلوك، فإن الحكمة تقتضى أن تبتعد مصر تماماً عن التورط فى المستنقع الليبى، ويكفينا هنا أن نحمى حدودنا بكل صرامة، وأن نؤيد بكل السبل الممكنة وبكل القدرات المتاحة القوى الليبية المحبة لمصر والساعية إلى بناء دولة مؤسسات محترمة تراعى حرمة الأخوة والجيرة.
وثانيها فإن التحرك العربى بمبادرة مصرية سعودية جزائرية مشتركة لم يعد اختياراً، بل صار ضرورة ملحة، ولا بأس أن يكون هناك مسعى تنسيقى مع الاتحاد الأوروبى بأى شكل كان، أو على الأقل الإلحاح فى بيان المخاطر المحققة على الأوروبيين إن ظل تقاعسهم مستمراً فى مواجهة المنظمات الإرهابية التى تعمل على أراضيهم.
وثالثاً أن أى تحرك مصرى، وإن أخذ كل الموافقات القانونية فى الداخل، يجب ألا يكون منفرداً بأى حال من الأحوال، وأن يكون تحت مظلة عربية ودولية. وأتصور أننا بحاجة إلى قمة عربية سريعة تبحث تطبيق اتفاقية الدفاع العربى المشترك فى مواجهة خطر الإرهاب العابر للحدود، فإن وجد العرب أو من تبقى منهم على حال متماسك وسيلة للمواجهة الجماعية فبها ونعمت، وإن أصر كل منهم على التصرف المنفرد محدود القيمة فلا يلومن إلا نفسه.