عنوان هذه المقالة من وحى محاكمة القرن، خاصة تعقيبى وزير الداخلية الأسبق حبيب العادلى، وعدلى فايد مساعد وزير الداخلية الأسبق للأمن العام. وهناك الكثير مما يمكن قوله بشأن التعقيبين المشار إليهما، ونظراً لأن وقائع المحاكمة ما زالت جارية، وخشية الوقوع فى شبهة ما، فإننى سوف أشير إلى نقطتين؛ الأولى تتعلق بالتعبيرين اللذين استخدما فى وصف موقف الشرطة المصرية، فبينما استخدم العادلى وصف الانسحاب من مواجهة جموع المواطنين الهائلة التى فاقت كل التوقعات، وصف عدلى فايد ما حدث بأنه هروب من مواجهة الموت، وأن الشرطة انكسرت فى ذلك اليوم.
والمسألة هنا أكبر من أن تكون مباراة بالكلمات، أو مزايدة من طرف على آخر. إذ يعرف القائمون على شئون الأمن والعسكرية أن الانسحاب له ضوابط وقواعد، وهو جزء من التدريب الذى يحصل عليه القادة للتصرف أثناء الأزمات والتطورات المفاجئة، وهو إما يكون انسحاباً تكتيكياً بغرض تحسين الموقف وزيادة معدلات الأداء ومفاجأة الخصم بأسلوب آخر فى أرض المعركة، وإما يكون انسحاباً استراتيجياً، وهو ما يحدث عادة حين تتعرض القوات لضربة قاصمة غالباً فى بداية المعركة، ويبقى أمام القائد ترك أرض المعركة مع من بقى من الجنود، بغية إعادة البناء ومواصلة القتال بعد فترة إعادة البناء هذه. وفى حروبنا مع العدو الصهيونى، هناك اللغز الكبير المتعلق بمن أصدر قرار الانسحاب للقوات من سيناء فى حرب يونيو 67، وهل كان هناك قرار بالانسحاب أصلاً؟ والغرض من هذه التذكرة هو أن مبدأ الانسحاب من المواجهة موجود ومعروف، ولكن نتائجه وتبعاته عادة ما تكون كارثية، خاصة إذا تقرر الانسحاب تحت الضغط ونتيجة هزيمة كبيرة. أما النقطة الثانية فهى خاصة بما رأيت يوم 28 يناير لعله يفيد بعض الشىء فى استيعاب ما جرى فى هذا اليوم العصيب والتاريخى معاً. ولن أقوم بطرح أى استنتاجات، وسأترك القارئ وفطنته. كان اليوم جمعة، والدعوة للحشد عبر مواقع التواصل الاجتماعى وبين أعضاء المنظمات طوال ثلاثة أيام سابقة ركزت على التوجه إلى ميدان التحرير من نقاط تجمع مختلفة، كان من بينها ميدان مصطفى محمود وميدان الجيزة وميدان الدقى، وغيرها من الميادين فى القاهرة، على أن تبدأ المسيرات بعد صلاة الجمعة مباشرة. أتممت الصلاة فى جامع على بن أبى طالب بالقرب من مستشفى الزراعيين، ووقفت مع كثير من الناس ننتظر المجموعة القادمة من ميدان مصطفى محمود، وفى حدود الساعة الثانية جاءت المقدمات لتنبئ عن حشد كبير يمتد بطول شارع البطل أحمد عبدالعزيز، وسار الجمع وعلى رأسه شباب يمسكون بميكروفونات يهتفون الهتافات المعروفة بالعيش والحرية والعدالة الاجتماعية وإسقاط مبارك والحزب الوطنى وهكذا، كما يدعون الناس للنزول من منازلهم والمشاركة فى التظاهرة، وقد استجاب كثيرون. والتحمت المجموعتان وتوجهتا إلى ميدان الدقى، حيث وقفت طلائع حشود أخرى قادمة من ميدان الجيزة وشارع فيصل، والتحم الجميع متوجهين عبر شارع التحرير إلى كوبرى الجلاء قاصدين ميدان التحرير. غير أن الأمر لم يكن ميسوراً، ففى مقدمة كوبرى الجلاء وقفت مجموعة من جنود الأمن المركزى لمنع الحشود من عبور الكوبرى، وحدث الاحتكاك المنتظر، وأطلق الجنود قنابل الغاز المُسيل للدموع، وحدث كر وفر. وفى هذه الأثناء التقيت الصديقين العزيزين أ. ضياء رشوان ود. حسام عيسى، وكل منا يبحث عن طريقة لإزالة أثر الغاز، وتحدثنا سريعاً حول توصيف ما يجرى أمامنا. وفى هذه الأثناء حدث أن أضرمت النار فى سيارتى أمن مركزى كانتا بجوار الجنود عند مطلع الكوبرى، وهاج الكثيرون من المشهد الذى أفصح عن نوايا تخريبية لدى البعض، ولكننا لم نكن ندرك من فعل ذلك ولماذا. وشخصياً اعتبرت أن الأمر طبيعى نتيجة الاحتكاك، خاصة أن الحشود كانت هائلة وليس لها قائد يمكنه السيطرة عليها.
مر الأمر سجالاً بين هؤلاء الجنود وهذه التجمعات التى كانت تزداد كل نصف ساعة تقريباً، نتيجة قدوم مجموعات أخرى من شوارع وميادين مختلفة فى الجيزة، وكلها حماس مما تراه من أعداد لم تكن متوقعة، حتى كانت الساعة الرابعة والنصف تقريباً، وإذا بالجنود غير موجودين فى أماكنهم، وأصبح الكوبرى خالياً، ولكن بقايا الغاز المسيل للدموع المعلقة فى المكان كانت من الكثافة والشدة، بحيث منعت من يريد المرور ليصل إلى ميدان التحرير، وهو الهدف الأكبر.
انتظرت الحشود بعض الوقت ما بين منتصف شارع التحرير وحتى قسم الدقى بميدان الجلاء، وبدأت التساؤلات أين ذهب الجنود؟ ولم يكن لدى أحد إجابة محددة. وفى هذه الأثناء لاحظت أن ضابطاً صغير السن منهكاً إلى حد الإعياء يقف بالقرب من الباب الرئيسى لقسم الدقى الذى قرر أحدهم أن يغلقه بجنزير، يمسك جهازاً لاسلكياً، ويشعر بحيرة شديدة، واقتربت منه ومعى بعض الشباب المتحفز، ربما لديه شىء يفسر أين ذهب الجنود، ولم يجب بشىء قائلاً لا أعرف، والجهاز خارج الخدمة ولا أحد يجيب. كانت ظلمة الليل قد طرحت نفسها على الجميع، وبين مبنى القسم وشارع جانبى يتجه إلى ميدان المساحة عدة أشجار يلتف حولها أناس منهكون وعيونهم تزيغ جيئة وذهاباً، وإذا بهم بعض الجنود الذين كانوا يطلقون الغاز قبل ساعتين، ولكنهم يرتدون ملابس مدنية ولا يتحدثون بشىء. وإذا بسيدة مُسنة تدرك بفطنتها أن هؤلاء ليسوا سوى ضحايا ولا يتحملون مسئولية أى شىء، وتذهب إلى الضابط الحائر لتسأله متى أكل هؤلاء؟ فلم يجب بشىء، وإذا بالعديد من الواقفين يتفقون على ضرورة شراء طعام لهؤلاء الضحايا وعبوات من المياه، فهم أولاً وأخيراً أبناء مصريون وليسوا مسئولين عن أى شىء. وبينما ذهب البعض لإتمام هذه المهمة الإنسانية بامتياز، اتفق عديد من الشباب على عمل سلسلة بشرية لحماية قسم الدقى، لأنه كما قال البعض ملكية عامة، ولم نسمع أى شىء عن القسم إلا فى اليوم التالى صباحاً، إذ هجم مجهولون فى الفجر على مبنى القسم ولكنه كان هجوماً محدوداً. وفى هذه الأثناء سرت «إشاعة» أصبحت معلومة لاحقاً أن الجيش سوف ينزل لحماية البلد بعد أن اختفت الشرطة، ووقف الجميع يتطلع لقدوم سيارات الجيش وجنوده. وحوالى الساعة الثانية عشرة مساء بدأت طلائع الجيش فى القدوم من ناحية ميدان الجيزة.