من المؤكد أن مصر لن تتمكن من تحقيق نهضتها المأمولة لكى تناطح السحاب، إن لم يحدث تغيير جوهرى فى سمات الجهاز الإدارى للدولة المصرية العريقة. يتعامل الملايين من المواطنين المصريين والمواطنات المصريات يومياً مع عشرات الآلاف من العاملين بالجهاز الإدارى للدولة فى الوزارات المركزية والهيئات العامة فى العاصمة أو فى فروعها فى عواصم المحافظات والوحدات المحلية فى المدن والقرى. وبالرغم من جميع المحاولات لتحسين أداء الجهاز الإدارى فى التعامل مع المواطنين، لا يزال الجهاز الإدارى عصياً على الإصلاح، ولا يزال معظم المواطنين المصريين يئنون من الأسلوب الذى يتعامل به العاملون بالجهاز الإدارى معهم.
ومن الغريب أن الجهاز الإدارى يطلق عليه جهاز «الخدمة المدنية»، أى أن العاملين به منوط بهم تقديم الخدمات للمواطنين والمواطنات، وليس «الانتقام منهم» أو «الإساءة إليهم» أو التعامل معهم باستعلاء.
ويبدو الأمر فى كثير من الأحيان وكأن المواطن يتسول عندما يطالب بحقه فى الحصول على خدمة يسدد لها المقابل المحدد، بينما يتعالى عليه موظف الخدمة المدنية الذى يتقاضى راتبه من أجل خدمة المواطنين.
وثمة عشرات الأمثلة على التعامل المهين مع المواطنين فى الكثير من المصالح الحكومية، التى تتنافى مع أبسط حقوق المواطنة، وتتعارض مع القيم الإنسانية. وعادة ما يتردد المواطنون فى الذهاب إلى المصالح الإدارية، بسبب الأسلوب غير المناسب فى التعامل، ناهيك عن التأخير فى إجابة طلبات المواطنين، فعلى سبيل المثال: تقف أمهاتنا المسنات اللائى يذهبن إلى فروع مكاتب البريد لتسلّم معاشاتهن أو معاشات أزواجهن صفوفاً طويلة فى الشارع فى حرارة الصيف وبرد الشتاء أو مطره، دون مظلة تحميهن من حرارة الشمس أو من المطر، دون الحديث عن إعداد مكان لائق بهن داخل المبنى وليس على الرصيف.
أرى هذا المشهد بنفسى منذ عدة سنوات فى طريقى إلى عملى، ويعتصرنى الألم، ويزداد الألم والحسرة عندما نعلم أن أمهاتنا يتقاضين أموالاً سبق استقطاعها من أزواجهن، أى أن هذه الأموال حقٌ لهن وليست مِنة من أحد، وأن الجهة الموقرة التى تجبرهن على الاصطفاف على الرصيف تتقاضى مقابلاً نظير تقديم هذه الخدمة. يعد المثال السابق نموذجاً للطريقة التى ينظر بها العاملون فى الجهاز الإدارى للمواطنين والمواطنات، بالرغم من أن هؤلاء العاملين فى الجهاز الإدارى هم من المصريين والمصريات، ولا يحملون جنسية دولة من الدول الاستعمارية.
ويمكننى ذكر مئات الأمثلة على ما شاهدته بنفسى منذ الطفولة، وما زلت أشاهده يومياً، على ذلك التعامل غير الحضارى مع المواطنين، الذى قدمته بعض الأفلام المصرية فى صورة أقرب ما تكون إلى الواقع.
وما زال المصريون يتذكرون عند تعاملاتهم مع العاملين بالجهاز الإدارى مشاهد الفنان عادل إمام فى مجمع التحرير فى فيلم «الإرهاب والكباب»، عندما ذهب لتحويل نجله من مدرسة إلى أخرى، ومشاهد الفنان أحمد حلمى فى فيلم «عسل إسود»، عندما ذهب لاستخراج رقم قومى، ومشهد الفنان خالد زكى فى فيلم «طباخ الريس» عندما قرر سائق الباص العام تغيير مساره وطلب من الركاب مغادرة الباص. وكانت الجملة الصادمة، ولكن المعبرة، من الفنان عبدالله مشرف، الموظف بالجهاز الإدارى للدولة، للمواطن الفنان أحمد حلمى فى فيلم «عسل إسود»، بأنه يعمل «بما لا يرضى الله».
قد يغضب البعض من الإشارة إلى هذه السلبيات، بيد أن تقديم العلاج لا يمكن أن يكون ناجعاً إلا بالتشخيص السليم للعلل والأمراض المتوطنة فى الجهاز الإدارى للدولة المصرية، والذى يتسبب فى إفشال أى مبادرات للإصلاح.
وبدلاً من أن يسهم الجهاز الإدارى فى رفع درجة رضا المواطنين عن الخدمات المقدمة إليهم، فإنه يؤدى إلى تزايد درجة الغضب والإحباط لدى المواطنين، وفى تردى مستوى الخدمات بالرغم من الأموال الطائلة التى تنفق عليها من الموازنة العامة للدولة.
يضاف إلى ما سبق البطء الشديد فى أداء الخدمات، بحيث يضطر المواطن إلى الذهاب عدة مرات لقضاء أمر يستغرق أقل من ساعة، بسبب إهمال أو لامبالاة أو تغيب الموظف المسئول.
وتأتى الرشوة فى قمة سلبيات بعض العاملين بالجهاز الإدارى، ويكون على المواطن فى هذه الحالة، إما أن يقبل بضياع عدة أيام فى الذهاب عدة مرات، كما فعل الفنان أحمد حلمى، ويطلب منه فى كل مرة طلباً جديداً، أو أن يسدد رشوة للموظف الذى تسمح له أخلاقه بقبول الرشوة.
وللقضاء على هذه الظواهر السلبية، نقترح أولاً: الإلغاء التدريجى للتعامل المباشر من قبل المواطنين مع العاملين بجهاز الخدمة المدنية.
ثانياً: تحويل الخدمات القابلة لذلك إلى خدمات إلكترونية، بحيث لا يتعامل المواطن طالب الخدمة مع أى من العاملين بالجهاز الإدارى، ولا يكون مضطراً للذهاب إلى مكان تقديم الخدمة.
ثالثاً: السماح بتأسيس شركات تكون وسيطاً بين المواطنين والجهاز الإدارى نظير مقابل، وتحت رقابة أجهزة الدولة.
رابعاً: التقييم المستمر لمقدمى الخدمات التى تستعصى على التحول إلى خدمات إلكترونية أو تقديمها من خلال شركات وسيطة، مثل خدمات التعليم والصحة والنقل العام، وإثابة المجدين والمخلصين ومعاقبة المهملين والفاسدين والمرتشين.
ليست الصورة قاتمة تماماً، فثمة أمثلة على النجاح فى تقديم خدمات فى أفضل صورة ممكنة من خلال التعامل الإلكترونى، مثل تجربة علاج المصابين بفيروس سى، أو من خلال الشركات الوسيطة، مثل سداد الطلاب الرسوم الدراسية.
بقى أن تكون لدينا الإرادة للتحول التدريجى خلال أقل عدد من السنوات إلى تكرار هاتين التجربتين الناجحتين فى معظم المجالات التى يتعامل فيها المواطنون والمواطنات مع الجهاز الإدارى للدولة المصرية العريقة. وبالرغم من كل السلبيات السابق الإشارة إليها، فمن حق الجهاز الإدارى والعاملين به أن نقدم إليهم كلمة شكر وثناء على جهودهم التى عصمت الدولة المصرية من الانهيار خلال الفترة التى أعقبت أحداث يناير 2011. ونأمل أن تسهم المقترحات السابق الإشارة إليها فى الارتقاء بأداء المواطنين المصريين والمواطنات المصريات من العاملين بجهاز الخدمة المدنية فى مصرنا العزيزة.