تزامن بعض المواقف المختلقة فى توقيت متقارب لتملأ نهم وسائل التواصل بكل ما تحمله من مغريات الانتشار واللهاث خلف شهرة زائفة تحققها هذه الوسائل.. بالتالى هى تمثل قناة نموذجية لبث رسائل مسمومة لا تندرج قطعاً ضمن معنى «إن بعض الظن إثم». الفترة الأخيرة انتقلت من وسائل التواصل الاجتماعى إلى برامج «التوك شو» عدة محاولات مفتعلة تدور حول إقحام المرأة فى جدل سطحى حُسم منذ عقود، سواء كانت طبيعته تمس قضايا اجتماعية أو فنية.
فجأة.. تقتحم فتاة برامج التوك شو وهى تتباكى بأداء تمثيلى واضح بحجة أنها حُرمت من ممارسة حقها فى السباحة داخل مجمّع سكنى مرة ونادٍ خاص مرة أخرى -وكل منهما له قوانينه الداخلية السارية على الأعضاء كافة- والأدهى أنها ليست من سكان المجمّع ولا من أعضاء النادى حتى تطالب بحقوقها فيهما. ولكى تضفى على الأكاذيب «نفحة» دولية لإثارة اهتمام المتاجرين بكل شىء دون فهم، ادعت كذباً أن الدولة الأوروبية التى تقيم بها لا تعترف بهذه التفرقة العنصرية! رغم أن كل دول أوروبا بها نوادٍ ومطاعم خاصة «key clubs- restaurant» لا يحق لهذه الفتاة ولا لأى أحد اقتحامها أو فرض قوانين خاصة من أفراد ليسوا أعضاء بها أصلاً.
افتعال حالة صدامية من مجرد اختلاف زى السباحة إلى منطقة «مظلومية» تقع على مَن مارست حقها فى اختيار الحجاب أو «البوركينى» لممارسة الرياضة هو جدل لا أصل له داخل المجتمع المصرى، أو على الأقل لا ينبغى أن يُطلق من فراغ لما يحمله من توابع ونوايا مسمومة، خصوصاً أن المرأة تعيش أزهى عصور إثبات وجودها والحصول على مكتسبات جديدة كل يوم منذ 2013 اعتماداً على مشاركتها ودورها المشرّف.. هى جزء من مصر التى نبذت القشور الهامشية إلى واقع أفضل.
واكب إثارة «الجعجعة بلا طحن» استحضار نغمة نشاز تحمل فى طياتها كل النوايا الخبيثة، والدليل أنها لم تمارَس فى إطار الحرية الشخصية، لكنها انطلقت عمداً إلى العلن. أثناء عملى فى الصحافة توالت تصريحات صحفية من بعض فنانات حول رغبتهن فى ارتداء الحجاب والابتعاد عن الفن.. أمر لا يستحق التعليق طالما بقى بين قوسين «الحرية الشخصية»، لكن الواقع كشف سريعاً عن باطن وهدف هذه الإعلانات المتتالية بعد اتجاه البعض منها إلى تكفير الفن كذنب يتوجب التوبة عنه! خلال حوار جمعنى بالفنانة القديرة أمينة رزق فى كواليس مسرحية «إنها حقاً عائلة محترمة» عبّرت لى عن حزنها للتحقير الذى تتعرّض له مهنة عظيمة ضحّت الكثير من فنانات جيلها لإرساء دعائمها، ثم لخّصت الهجمة على الفن بحكمة قائلة: «من تريد التوبة عن أى خطأ ارتكبته فلتفعل.. لكن الفن ليس ذنباً يستدعى التوبة». بعد النشر نال الفنانة الكبيرة سيل من الهجوم دون أى اعتبار لمكانتها وتاريخها.
لا أحد ينكر على المبدعين تعرضهم لانتكاسات نفسية، فهم بشر أولاً وأخيراً.. الخطأ يكمن فى إسقاط هذه التقلبات على قيمة كبيرة تتجاوز كل الأعذار والحجج مهما بلغت قوتها. محاولات النيل من وهج الإبداع نار لن تحرق إلا من يحاولون المساس به أو إخضاعه لمعايير لا تمت لطبيعة الفنون بصلة، والتلاعب بتعبيرات من عيّنة «حرامها حرام وحلالها حلال» تحمل فى ظاهرها الاعتدال بينما باطنها يُخفى ما هو أخطر. الابتعاد عن الفن حق لمن يشاء، لكن الحرية قطعاً لا تمنح أحداً حق تغيير مقاييس تقييم الإبداع وإخضاعه لشهوة «الترند». فى توقيت يحظى فيه الفن بكل مظاهر التكريم من القيادة السياسية والحرص على الاحتفاء بمبدعيه فى كل المناسبات الرسمية تأكيداً على أهمية دورهم، لا يليق وجود مثل هذه القشور التى عفا عليها الدهر، ثم تكالب بعض طلاب الشهرة من مشايخ السلفية على اقتحام السجال للأسف عبر ألفاظ متدنية.
بعيداً عن التفتيش فى الضمائر، علّمنا التاريخ أن الحكمة تقتضى الاستفادة من الدروس السابقة من محاولات دس السم فى العسل للفن، خصوصاً بعد النجاحات التى حققها مبدعوه فى الأعوام الماضية. أخيراً.. على المبتعدين عن الفن أن يدعوه لشأنه.. للفن إبداع يحميه.