(وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُن لَّهُمْ شُهَدَاءُ إِلَّا أَنفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ) (سورة النور، آية ٦). يقول تعالى ذكره: (وَالَّذِينَ يَرْمُونَ) من الرجال (أَزْوَاجِهِمْ) بالفاحشة، فيقذفونهن بالزنا (وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ) يشهدون لهم بصحة ما رموهن به من الفاحشة (فَشهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ)، واختلفت القرَّاء فى قراءة ذلك، فقرأته عامة قرَّاء المدينة والبصرة (أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ) نصباً، ولنصبهم ذلك وجهان، أحدهما أن تكون الشهادة فى قوله (فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ)، وذلك قوله (إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ)، وذلك أن معنى الكلام (وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلا أَنْفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ) تقوم مقام الشهداء الأربعة فى دفع الحد عنه، فترك ذكر «تقوم مقام الشهداء الأربعة» اكتفاء بمعرفة السامعين بما ذُكر من الكلام، فصار مرافع «الشهادة» ما وصفت، ويعنى بقوله (فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللهِ) فحلف أحدهم أربع أيمان بالله، من قول القائل أشهد بالله إنه لمن الصادقين فيما رمى زوجته به من الفاحشة، (والخامسة) يقول: والشهادة الخامسة (أَنَّ لَعْنَةَ اللهِ عَلَيْهِ)، يقول: إن لعنة الله له واجبة وعليه حالَّة، إن كان فيما رماها به من الفاحشة من الكاذبين.
وبنحو الذى قلنا فى ذلك جاءت الآثار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقالت به جماعة من أهل التأويل، ذُكرت الرواية بذلك، وذُكر السبب الذى فيه، إذ جاءه رجل وهو جالس مع أصحابه، فقال: يا رسول الله إنى جئت أهلى عشاء، فوجدت رجلاً مع أهلى، رأيت بعينى وسمعت بأذنى، فكره رسول الله ما أتاه به وثقل عليه جداً، حتى عرف ذلك فى وجهه، فقال: والله يا رسول الله إنى لأرى الكراهة فى وجهك مما أتيتك به، والله يعلم أنى صادق، وما قلت إلا حقاً، فإنى لأرجو أن يجعل الله فرجاً، قال: واجتمعت الأنصار، فقالوا: ابتُلينا بما قال سعد، أيجلد هلال بن أمية، وتبطل شهادته فى المسلمين؟ فهمَّ رسول الله بضربه، فإنه لكذلك يريد أن يأمر بضربه، ورسول اللَّه جالس مع أصحابه، إذ نزل عليه الوحى، فأمسك أصحابه عن كلامه حين عرفوا أن الوحى قد نزل حتى فرغ، فأنزل الله (وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلا أَنْفُسُهُمْ) إلى (أَنَّ غَضَبَ اللهِ عَلَيْهَا إِنْ كَانَ مِنَ الصَّادِقِينَ)، فقال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: أبشر يا هلال، فإن الله قدْ جعل فرجاً، فقال: قد كنت أرجو ذلك من الله، فقال رسول اللَّه: «أرسلوا إليها» فجاءت، فلما اجتمعا عند رسول الله قيل لها، فكذبت، فقال رسول الله: إن الله يعلم أن أحدكما كاذب، فهل منكما تائب؟، فقال: يا رسول اللّه، بأبى وأمى لقد صدقتُ، وما قلتُ إلا حقاً، فقال رسول الله: «لاعنوا بينهما»، قيل: يا هلال اشهد، فشهد أربع شهادات بالله إنه لمن الصادقين، فقيل له عند الخامسة: يا هلال اتق الله، فإنَّ عذاب الله أشد من عذاب الناس، إنها الموجبة التى توجب عليك العذاب، فقال والله لا يعذبنى الله عليها، كما لم يجلدنى عليها رسول الله، فشهد الخامسة (أَنَّ لَعْنَةَ اللهِ عَلَيْهِ إِنْ كَانَ مِنَ الْكَاذِبِينَ)، ثم قيل لها: اشهدى، فشهدت أربع شهادات بالله إنه لمن الكاذبين، فقيل لها عند الخامسة اتقى الله، فإن عذاب اللَّه أشد من عذاب الناس، وإن هذه الموجبة التى توجب عليك العذاب، فتلكأت ساعة، ثم قالت: والله لا أفضح قومى، فشهدت الخامسة (أَنَّ غَضَبَ اللهِ عَلَيْهَا إِنْ كَانَ مِنَ الصَّادِقِينَ)، ففرَّق بينهما رسول الله، وقضى أن الولد لها، ولا يُدعى لأب، ولا يُرمى ولدها.
وعن ابن عباس، قال: «لما قذف هلال بن أمية امرأته، قيل له: والله ليجلدنك رسول الله ثمانين جلدة، قال: الله أعدل من ذلك أن يضربنى ضربة وقد علم أنى قد رأيت حتى استيقنت، وسمعت حتى استثبت، لا والله لا يضربنى أبداً، فنزلت آية الملاعنة، فدعا بهما رسول الله حين نزلت الآية فقال: الله يعلم أن أحدكما كاذب، فهل منكما تائب؟ فقال هلال: والله إنى لصادق، فقال له: احلف بالله الذى لا إله إلا هو إنى لصادق، يقول ذلك أربع مرات، فإن كنتُ كاذباً فعلىَّ لعنة الله، فقال رسول اللَّه: «قفوه عند الخامسة فإنها موجبة» فحلف، ثم قالت أربعاً: والله الذى لا اله إلا هو إنه لمن الكاذبين، فإن كان صادقاً فعلىَّ غضب الله، وقال رسول الله: «قفوها عند الخامسة، فإنها موجبة»، فترددت، وهمت بالاعتراف، ثم قالت: لا أفضح قومى.
وقال: كنا ليلة الجمعة فى المسجد، فدخل رجل فقال: لو أن رجلاً وجد مع امرأته رجلاً فقتله قتلتموه، وإن تكلم جلدتموه! فذُكر ذلك لرسول الله، فأنزل الله آية اللعان، ثم جاء الرجل بعد، فقذف امرأته، فلاعن رسول الله بينهما، فقال: عسى أن تجىء به أسود جعداً، فجاءت به أسود جعداً.
حدثنا ابن وكيع قال: سألت ابن عمر، فقلت: يا أبا عبدالرحمن، أيفرَّق بين المتلاعنين؟ فقال: نعم، سبحان الله، إن أول من سأل عن ذلك فلان، أتى النبى، فسأله، فقال: أرأيت لو أن أحدنا رأى صاحبته على فاحشة، كيف يصنع؟ فلم يجبه فى ذلك شيئاً، قال: فأتاه بعد ذلك فقال: إن الذى سألت عنه قد ابتُليت به، فأنزل الله هذه الآية فى سورة النور، فدعا الرجل فوعظه وذكره، وأخبره أن عذاب الدنيا أهون من عذاب الآخرة، قال: والذى بعثك بالحق، لقد رأيت وما كذبت عليها، قال ودعا المرأة فوعظها، وأخبرها أن عذاب الدنيا أهون من عذاب الآخرة، فقالت: والذى بعثك بالحق إنه لكاذب، وما رأى شيئاً، قال: فبدأ الرجل، فشهد أربع شهادات بالله إنه لمن الصادقين، والخامسة أن لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين، وكذلك فعلت الزوجة، وهذا هو التلاعن قبل الطلاق كفرصة أخيرة للتراجع بين الزوجين، والله أعلم.