سنابل الأرز كانت ملآنة على أعوادها هذا الموسم، فى نحو 1.7 مليون فدان مصرى، واحتفلت الغيطان بمزيد من الأجولة فى حالاتها التقليدية المختلفة، فى مولد حصاد الخير الذهبى الثالث، الذى بلغت غلته هذا العام نحو 6 ملايين طن شعير، أى نحو 4 ملايين طن أرز أبيض جاهز للطبخ.
الذهب الأول هو القطن ببياضه العائد على الضفة الأخرى من الترعة بربحية لم تكن منتظَرة ولا مُصَدَّقة، والذهب الثانى هو القمح الذى لم يحقّق أى ربحية، وذهب معظمه جريشاً للماشية مع استمرار استيراد 9 ملايين طن من منافسيه الروسى والأوكرانى، والفرنسى، وأقيمت على أنقاضه زرعة الأرز صيفاً.
والذهب الثالث فى غرف خزين المزارعين هو الأرز الذى تعرّض للغدر منذ نحو أربعة أعوام، لا لشىء سوى أن حلم الفلاحين بالربح دفعهم لتخزينه ذات عام، فارتفع سعره محقّقاً ربحية عادية ومشروعة، لكنها فجّرت أحقاد وزارة التموين والتجارة الداخلية، فوجّهت إليهم ضربة قاتلة، بالاتفاق مع وزارة الصناعة والتجارة الخارجية بوقف تصديره.
لم تكن ضربة الأرز قاتلة للفلاحين فقط، بل كانت وستظل خنجراً فى خاصرة الاقتصاد المصرى، بوقف تصديره، بدعوى أنه يستهلك مياهاً بأكثر من قيمته، وهو المبرّر الذى أسقطه علماء بحوث «سخا» حينما استنبطوا، منذ سنوات طويلة، هُجُنا مصرية تستهلك مياهاً أقل من مقنن الذرة والقمح والكنتالوب، حتى بلغت نتائجهم مستوى قياسياً فى توفير مياه الأرز، بزراعته وريه بالتنقيط فى الصحراء، لتتحقق النكتة التى كان يردّدها الفلاحون «كأنك بتزرع الرز فى الرمل».
عدم تصدير الأرز خفّض سعر بيعه إلى ما دون تكلفة إنتاجه، فدفع الفلاحين إلى كراهيته وضخ سموم بُغضهم فى وجه الأرض، هاجرين ولاعنين وساخطين، بعد أن كانو يعلنون الأفراح فى مواسم الحصاد، التى تحولت إلى مطاردات طارقى الأبواب من تجار الأسمدة والمبيدات وجميع مستلزمات الزراعة، حتى عمال اليومية الذين باتت أجورهم رهينة هذا اليوم.
عدم تصدير الأرز تسبّب فى تكديسه داخل بيوت الفلاحين، فانهارت قيمته المعنوية، عملاً بقاعدة «المتاح رخيص»، فامتدت إليه الأيدى بجرأة لخلطه شعيراً بالعلف الحيوانى والداجنى، الذى فاق سعره ضعف ثمن الأرز، محقّقاً معادلة يصعب فك رموزها المبكية.
اختفاء الأرز المصرى من على أرفف متاجر الخليج وأوروبا جاء فى صالح المنافس الشرس الأمريكى والأسترالى، الذى يحمل علامة (أرز مصرى زُرِع فى أستراليا أو كاليفورنيا)، وارتفع سعره حالياً إلى 6 ريالات فى السعودية، بدلاً من ريالين فى نصف العقد الأخير من القرن العشرين.
خسارة المنتجين الزراعيين، وخسارة منتجى الدواجن واللحوم، تعنى الضرب المبرح على أيادى المنتجين المصريين، فهل يعى وزيرا التموين والتجارة هول المصيبة، وترجمتها الصريحة تتجسّد فى هدم شعار «من يملك قوته يملك قراره».
عدم تصدير نحو مليون طن أرز مصرى فائض عن استهلاك المصريين، مع عدم توافر البديل لزراعة هذا المحصول، ومع توافر أصناف شحيحة استهلاك المياه، ومع الضرورة الجبرية لزراعته فى أراضى محافظات شمال مصر لمكافحة التصحر بالتملّح، جريمة يرتكبها -دون عمد- من لا يعى حجم المشكلة اقتصادياً واجتماعياً وتنموياً، فى دولة يعمل رئيسها ليل نهار تحت شعار «تحيا مصر».