جاءت آية «اقرأ» من سورة «العلق» فى أول القرآن كأول آية نزلت منه، ولكن حين تم ترتيب سور القرآن فى عهد الرسول، صلى الله عليه وسلم، قبل أن يراجعه ٤ مرات مع جبريل، وتمت كتابته مرتباً فى عهدى عمر وعثمان وصدر مصحفاً مكتوباً لعثمان بن عفان وتم توزيعه على كل البلدان التى دخلت الإسلام، كان من الطبيعى أن تجد سورة «العلق» فى أول القرآن، والقرآن نفسه تمت تسميته باسم آية «اقرأ» قرآناً، وجاءت أوامر للرسول، صلى الله عليه وسلم، فى سورتى المدثر والمزمل تصف معاناة الرسول من لقاء الجسد البشرى بالملاك فتحدث الرعشة والانتفاضة.
وتضمنت السورتان مزيداً من التكليفات للرسول بضرورة قيام ثلثى الليل ثم نصفه ثم ثلثه لكى تعينه صلاة القيام على التواصل مع عالم السماء بعيداً عن بشريته والتصاقها بالأرض، وهكذا شأن العباد والمتصوفة، كثرة الدعاء وقيام الليل يجعلهم أقرب للملائكة من البشر.
فضلاً عن الخوف الذى انتاب الرسول من ظهور ملك؛ جناحاه من شرق الأرض إلى مغربها، ويدخل عليه كشعاع نور أضاء جبال مكة كلها من آخر حدودها إلى أبعد رؤوسها، فتغير لون السماء الذى اعتاده الرسول متأملاً رؤيتها كل ليلة فى شهور بلغت عامين كاملين يتأمل فى خلق الله دون نزول كتاب عليه، ولولا أن ورقة بن نوفل طمأنه لحدث للرسول ما لا يحمد عقباه إلا بحفظ الله له.
قال الإمام أحمد: «عن عائشة قالت: أول ما بدئ به رسول الله من الوحى الرؤيا الصادقة فى النوم، فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح، ثم حبب إليه الخلاء، فكان يأتى حراء فيتحنث فيه، وهو التعبد، الليالى ذوات العدد، ويتزود لذلك ثم يرجع إلى خديجة فتزود لمثلها حتى جاءه الحق وهو فى غار حراء، فجاءه الملك فيه فقال: اقرأ، قال رسول الله، صلى الله عليه وسلم: فقلت، ما أنا بقارئ، قال: فأخذنى فغطنى حتى بلغ منى الجهد، ثم أرسلنى، فقال اقرأ، فقلت: ما أنا بقارئ، فغطنى الثانية حتى بلغ منى الجهد، ثم أرسلنى، فقال: اقرأ، فقلت: ما أنا بقارئ، فغطنى الثالثة حتى بلغ منى الجهد، ثم أرسلنى، فقال (اقرأ باسم ربك الذى خلق) حتى بلغ (ما لم يعلم)، قال فرجع بها ترجف بوادره حتى دخل على خديجة فقال: «زملونى زملونى»، فزملوه حتى ذهب عنه الروع، فقال يا خديجة: ما لى؟ فأخبرها الخبر، وقال: «قد خشيت علىّ»، فقالت له: كلا، أبشر فوالله لا يخزيك الله أبداً، إنك لتصل الرحم، وتصدق الحديث، وتحمل الكل، وتقرى الضيف، وتعين على نوائب الحق.
ثم انطلقت به خديجة حتى أتت به ورقة بن نوفل بن أسد بن عبدالعزى بن قصى، وهو ابن عم خديجة، أخو أبيها، وكان امرأ تنصّر فى الجاهلية، وكان يكتب الكتاب العربى، وكتب بالعربية من الإنجيل ما شاء الله أن يكتب، وكان شيخاً كبيراً قد عمى، فقالت خديجة: أى ابن عم، اسمع من ابن أخيك، فقال ورقة: ابن أخى، ما ترى؟ فأخبره رسول الله ما رأى، فقال ورقة: هذا الناموس الذى أُنزل على موسى، ليتنى فيها جذعاً أكون حياً حين يخرجك قومك، فقال رسول الله، صلى الله عليه وسلم: «أومخرجى هم؟»، فقال ورقة، نعم، لم يأت رجل قط بما جئت به إلا عودى، وإن يدركنى يومك أنصرك نصراً مؤزراً، ثم لم ينشب ورقة أن توفى، وفتر الوحى فترة حتى حزن رسول الله، فيما بلغنا، حزناً غدا منه مراراً كى يتردى من رؤوس شواهق الجبال، فكلما أوفى بذروة جبل لكى يلقى نفسه منه، تبدى له جبريل فقال يا محمد إنك رسول الله حقاً، فيسكن بذلك جأشه، وتقر نفسه فيرجع، فإذا طالت عليه فترة الوحى غدا لمثل ذلك، فإذا أوفى بذروة الجبل تبدى له جبريل فقال له مثل ذلك».
وهذا الحديث مخرج فى الصحيحين من حديث الزهرى.
فأول شىء نزل من القرآن هذه الآيات الكريمات المباركات، وهن أول رحمة رحم الله بها العباد، وأول نعمة أنعم الله بها عليهم.