لم يكن بائع الموز المتمرد يعلم أن غضبه من عدم قدرة والده على شراء دراجة له ليذهب بها إلى مدرسته البعيدة لن يستمر طويلاً.. فمهاتير محمد.. الابن الأصغر لهذا الموظف البسيط سيرحل بعد أعوام قليلة إلى بلد مجاور يدعى «سنغافورة» لدراسة الطب.. وسيعود ليعمل طبيباً فى بلده الواقع تحت وطأة الاحتلال الإنجليزى حتى ذلك العام.. عام ٥٣.. ثم سينطلق بعدها ليكون صاحب الفضل فى أكبر نموذج للنهضة التعليمية فى العصر الحديث فى بلاده.. ماليزيا.. لقد نجح رئيس الوزراء المحب لبلاده حقاً فى وضع الأسس التى قفزت بتلك الدولة الفقيرة فى مواردها.. إلى مصاف الدول الكبرى.. ذات الاقتصاد القوى والدخول المرتفعة للأفراد.. فقط.. باهتمامه بالتعليم.. والموارد البشرية.. فكيف فعلها؟!
لقد قرر أن يكون التعليم والبحث العلمى هما الأولوية الأولى على رأس الأجندة، وبالتالى خصص أكبر قسم فى ميزانية الدولة ليضخ فى التدريب والتأهيل للحرفيين.. والتربية والتعليم.. ومحو الأمية.. وتعليم الإنجليزية.. وفى البحوث العلمية.. كما أرسل عشرات الآلاف كبعثات للدراسة فى أفضل الجامعات الأجنبية.
لقد كانت كلمة السر هى الاهتمام بالتعليم.. فقط.. فخصص له ما يقارب من ٢٤٪ من الإنفاق الحكومى سنوياً.. ووجه الإنفاق إلى بناء مدارس جديدة وتنمية المدارس الموجودة بتعليم الكمبيوتر وبتفعيل اتصالها بالإنترنت.. بل إنه جعل مرحلة التعليم ما قبل المدرسة «رياض الأطفال» جزءاً من النظام الاتحادى للتعليم، واشترط أن تكون جميع دور رياض الأطفال مسجلة لدى وزارة التعليم، وملتزمة بمنهج تعليمى مقرر من الوزارة.
ولأننا نكره قراءة التاريخ.. ونترفع عن الاستفادة بتجارب الآخرين.. نجد أننا ما زلنا بعيدين للغاية من الوصول إلى مفاتيح نهضتنا.. فلربما لا يعلم الكثيرون أن بمصر أكثر من عشرة آلاف قرية لا تمتلك مدرسة ابتدائية.. بما يعادل ٢٤٫٥٪ من إجمالى عدد القرى فى مصر.. مما يجعل التلاميذ يسيرون أكثر من كيلومترين يومياً للذهاب إلى المدرسة الابتدائية فى قرية مجاورة.. ومما يجعل التسرب من التعليم حتمياً للغالبية العظمى من هؤلاء الأطفال.. حتى الأطفال الذين يمتلكون مدرسة فى قريتهم الصغيرة.. يفتقدون الحد الأدنى من مقومات التربية الصحيحة بها.. لأنها ببساطة تمتلك من عوامل الطرد بين مدرسين ومشرفين.. ما يجعلها أسوأ تجربة يمر بها الطفل.. فيتمنى لو لم تكن!
لا شك أن ميزانية الدولة مرهقة بأعباء ثقيلة.. والدين الداخلى والخارجى يتعاظمان عاماً بعد عام.. ولكن مشكلة كهذه كان يجب أن تجد طريقها للحل بوضعها على مائدة المشاكل الأكثر أهمية.. وأن يتم تخصيص جزء محدد من الموازنة العامة لحلها على مراحل زمنية.. بل وأن يتم الإعلان عن هذا الجدول الزمنى من قبل الوزارة.. ولا مانع من اشتراك الجمعيات الأهلية ضمن مشروع قومى ترعاه الدولة فى تقديم العون المادى والبشرى.. لتقليص عدد هذه القرى المحرومة حتى من مدارس التعليم الأساسى.. مع الاهتمام بنوعية التعليم المقدم فى هذه المدارس.. والعمل على تحسينه ومراقبة الأداء فيه بصورة مستمرة.. لن نتقدم للإمام خطوة واحدة دون أن ندرك مشاكلنا العاجلة.. بل ونحدد الأولويات وسبل العلاج السريع.. فالتعليم هو الخطوة الأولى لعلاج معظم مشاكل هذا المجتمع الطيب.