لقد تأكدنا جميعاً أن الحدث المبهر الذى جرت وقائعه فى شهر أبريل الماضى، حين تسمرت قطاعات كبيرة من الجمهور العالمى مندهشة أمام الشاشات، لمشاهدة موكب نقل المومياوات المهيب عبر شوارع القاهرة، لم يكن حدثاً استثنائياً منفرداً، أو نجمة زاهرة خطف بريقها الأنظار ثم أخذ فى الخفوت، وإنما استراتيجية صلبة، ومسار عمل متكامل، وحلقة من حلقات ممتدة قوامها إحياء القدرة والفخر الوطنيين.
على مدى يومى الخميس والجمعة الفائتين أنفقت وقتاً وجهداً كبيرين لكى أرصد وسيلة إعلام عالمية واحدة لم تفرد مساحة مُعتبرة لتغطية وقائع إعادة افتتاح طريق الكباش، فلم أفلح.
لم تكن هناك وسيلة إعلام دولية، تنطلق من دولة صديقة أو محايدة أو حتى تناصب مصر العداء، إلا واهتمت بإبراز هذا الحدث المبهر، وتقديمه فى معرض الثناء.
وفى العناوين، كانت الكلمات تتكرر أو تترادف على نحو فريد؛ فمصر تُحيى، أو تُعيد، أو تكشف، أو تستعيد، أو تُبهر، وفى المتون كانت الأوصاف تتوالى عن الإدهاش، والروعة، والمهابة، وحسن التنظيم وبراعة المُنظمين.
ولأن معظم تلك الوسائل تعتمد أطر تقديم احترافية؛ فإنها أردفت معالجة ذلك الحدث بموضوعات ذات صلة به، وفى هذه الموضوعات سيتم التذكير بعظمة الآثار المصرية، وبعمق التاريخ الوطنى، وبروعة الأقصر وميراثها الحضارى والإنسانى الذى لا يُبارى.
لو خصّصت مصر ميزانية ضخمة لإنجاز حملة دعائية تعزّز صورتها الذهنية، وتُعلن عن إمكانياتها السياحية والتنظيمية، لما نجحت فى تحقيق هذا الإنجاز.
ولكى ندرك حجم الإنجاز علينا أن نتذكر العناوين التى كانت تتردّد عن مصر فى تلك الوسائل الإعلامية العالمية على مدى سنوات سابقة، والتى لم تكن تخرج عن «اضطرابات»، و«غلاء»، و«تضخّم»، و«سجناء»، و«احتجاجات»، ثم نقارنها بما تحدث عنه العالم منذ يوم الخميس الماضى بخصوص مصر ومنجزها التطويرى والحضارى.
فى عام واحد، نجحت مصر فى إخراج حدثين عالميين مبهرين على أفضل صورة ممكنة، وفى هذين الحدثين الكثير من الإشارات إلى طبيعة الإدارة الراهنة، والأهداف التى وضعتها قيد الإنجاز، والقدرة على التنفيذ وفق أعلى المعايير الدولية.
لقد أثمر الاحتفال بإعادة افتتاح طريق الكباش، يوم الخميس الماضى، فوائد كثيرة لصورة مصر، وبرهن على تطورها، وكرس اليقين فى مكانتها الإبداعية، وأكد قدرتها التاريخية على إلهام العالم وإدهاشه، وربط بين تاريخها العظيم وحاضرها الذى تأمل فى أن يعيد صورتها إلى الألق الذى كانت عليه فى أزهى عصورها.
ومع ذلك، فإن فائدة كبرى أخرى قد تحقّقت؛ إذ سيصعب مجدداً أن نخفق فى الاستجابة للتحديات التى تواجهنا، وقد ثبت لنا أن لدينا تلك القدرات التنظيمية الرائعة، وتلك القدرة على اختيار أفضل ما نمتلك من عناصر، وتوفير الأجواء المناسبة لتُبدع وتنتج، لنحصل فى النهاية على العلامة الكاملة، مهما كانت الصعوبات والتعقيدات التى تكتنف الأعمال التى نتصدى لإنجازها.
وفيما جرت وقائع الاحتفال بنقل المومياوات من المتحف المصرى إلى المتحف القومى للحضارة فى شوارع القاهرة العامرة، كان الاحتفال بإعادة افتتاح طريق الكباش فى الأقصر، التى هى مستقر أثمن الآثار فى العالم، والتى هى فى طريقها إلى التحول متحفاً مفتوحاً للحضارة والإبداع، والتى هى طيبة، التى قال عنها شامبليون قديماً: «طيبة.. تلك أعظم كلمة بين كل اللغات.. فجمال آثارها وسموها مدهش».
لم يمر الأمر بطبيعة الحال من دون محاولات للنقد والاستخفاف بما جرى، وفى هذا الصدد برزت الانتقادات بخصوص تكريس هذه الطاقة الوطنية الضخمة والموارد الكبيرة من أجل إنجاز عمل «احتفالى»، فى الوقت الذى تعانى فيه الدولة لتوفير موارد للنهوض بأعباء أخرى ضرورية، تتصل بمجالات الصحة والتعليم والإسكان والخدمات وإعانة الأكثر احتياجاً ودعم الواقعين تحت خط الفقر.
كانت تلك الحجة هى مركز المحاولات التى استهدفت النَيل من النجاح الرائع الذى سجّله الاحتفال بالحدثين الكبيرين، وبالطبع فإن القائلين بها حاولوا الإيحاء بأنهم حريصون على أن ترتب الدولة أولوياتها على النحو الصحيح، لكن تلك الحجة باطلة، ولا تعكس حساً مستقيماً أو اقتراباً موضوعياً.
فدولة مثل مصر يجب أن تعمل فى جميع مسارات العمل الوطنى بالشكل الذى يحقق التوازن فى الأداء والإنجاز، ويستوفى الاستحقاقات الضرورية من دون جور على أى منها بداعى الأولوية.
تحتاج الدول إلى هذا النوع من الأعمال من أجل تعزيز صورتها الذهنية، ولأن مصر تمتلك جميع المقدرات التى يمكن أن تساعدها على أن تكون دولة سياحية من الطراز الأول، فإنها مطالبة بأن تطلق خططاً ترويجية مناسبة لكى تساعد قطاع السياحة، الذى يعد أحد أهم مصادر العملة الصعبة والدخل القومى، وهو أمر يحتاج إلى الكثير من الأعمال المشابهة.
لو أن مصر أطلقت خطة ترويجية تعتمد على نشر الإعلانات فى وسائل إعلام عالمية لجلب الاهتمام وإنعاش قطاع السياحة لأنفقت عشرات الملايين من الدولارات من دون أن تحقق هذا الصدى وهذا الذيوع وهذا التأثير الذى نجم عن مشهد نقل المومياوات المهيب، أو مشهد إعادة افتتاح طريق الكباش، وما صحبهما من احتفالات ثقافية وفنية بديعة.
لا أشك مطلقاً فى أن مصر ستجنى فوائد كبيرة من سياسات إحياء تراثها الحضارى الفرعونى خصوصاً، ولا أشك أيضاً أن مزيداً من تلك الأحداث المبهرة سيحدث قريباً.