لقد أثار الحوار الذى أجرته الإعلامية لميس الحديدى مع وزراء المياه فى مصر والسودان وإثيوبيا الكثير من الجدل حول تطور مباحثات سد النهضة الإثيوبى. فقد اتضح من الحوار الخلافات الكبيرة فى توجهات الدول الثلاث نحو السد من تعنت إثيوبى واضح وعدم الاعتراف بأى اتفاقيات تاريخية أو الالتزام بقواعد القانون الدولى الراسخة، وتأييد سودانى معلن لسد النهضة، ومعارضة مصرية على استحياء ومشتتة ما بين الحفاظ على حقوق مصر المائية وبين الرغبة فى عدم إثارة المشاكل مع إثيوبيا. والهدف من هذا المقال ليس تحليلاً لمواقف الدول التى بالفعل تعرضت لها فى مقال آخر، ولكن الهدف هو مناقشة بعض الالتباسات التى وردت على لسان الوزيرين السودانى والإثيوبى. وأنا شخصياً من المعجبين بأداء الوزير السودانى الهادئ المميز، ومن غزارة معلوماته الفنية بالرغم من أنه فى الأصل دبلوماسى متمرس. ولكن عندما سألت سيادته الإعلامية لميس الحديدى عن العرض الإثيوبى للسودان بمد قناة من بحيرة سد النهضة إلى ولاية النيل الأزرق السودانية وتوفير الكهرباء الإثيوبية بسعر مدعم للسودان، اتهم سيادته الإعلام المصرى بترويج هذه الأقوال وذكر أن السودان دولة لا تبيع مواقفها، وهذا صحيح ونحن نؤكد أن السودان دولة كبيرة ولها مواقفها المشهودة. ولكننا نوضح لسيادته بأنه من نشر هذه الأخبار هى وسائل الإعلام السودانية وليست المصرية وتحديداً المركز السودانى للخدمات الصحفية فى أول أغسطس الماضى، وذلك على لسان الخبير السودانى الدكتور سلمان محمد سلمان المؤيد بشدة لسد النهضة والمعارض تماماً للسد العالى واتفاقية 1959. وكان قد أشار سيادة الوزير السودانى إلى تضحيات السودان لتنفيذ اتفاقية 1959 مع مصر من تهجير السكان المحليين من شمال السودان، وهذا صحيح ولكن لم يوضح سيادته التعويضات المالية التى قدمتها مصر للحكومة السودانية لتعويض هؤلاء المواطنين، والتى قد لا ترقى إلى قيمة تضحياتهم، ولكن مصر لم تتأخر عن الاستجابة لطلب الحكومة السودانية فى هذا الشأن. ولم يذكر سيادته الفوائد المائية التى استفادها السودان من هذه الاتفاقية بالرغم من أنه كانت وما زالت هناك معارضة من بعض التوجهات السودانية للسد العالى واتفاقية 1959 تطلعاً لحصة مائية أكبر، ولكن لا ينتبه البعض سواء فى مصر أو فى السودان إلى أن بقية دول حوض النيل مجتمعة تريد اقتطاع أجزاء كبيرة من هذه الحصص، وقد قطعت شوطاً كبيراً فى هذا الصدد فى ظل الخلافات المصرية السودانية التى تطفو إلى السطح بين وقت وآخر وينفخ فى نارها بعض المثقفين والسياسيين من هنا وهناك.
وذكر سيادة الوزير السودانى أيضاً أن صالح السودان يتمثل فى إقامة السدود التخزينية فى دول المنبع فى الهضبتين الاستوائية والإثيوبية، وزعم سيادته أن هذا أيضاً كان توجهاً مصرياً قبل بناء السد العالى. وأعطى سيادته مثالاً على ذلك بخزان أوين على بحيرة فيكتوريا الذى ساهمت فيه الحكومة المصرية. ولكننا نذكر سيادته بأن خزان أوين يعتمد فى الأساس على الفارق الكبير فى المنسوب أمام وخلف السد لتوليد الكهرباء ويساعد بالفعل فى زيادة إيراد نيل فيكتوريا، وأن هذا الخزان ليس كسد النهضة التخزينى الذى سيسبب نقصاً مؤثراً فى إيراد النيل الأزرق. ومصر أيضاً لم تعترض على سدود شارا شارا وسد فينشا ونفق تانا بليس فى إثيوبيا سواء على بحيرة تانا أو على النيل الأزرق لعدم إحداثها ضرراً مؤثراً بإيراد النهر. وقد أكد السيد الوزير السودانى أثناء هذا الحوار التزام دولته الشقيقة باتفاقية 1959 مع مصر، ولكن لم يذكر سيادته أنه على ضوء هذه الاتفاقية سيقتسم السودان بالمناصفة العجز المائى فى إيراد النهر نتيجة بناء سد النهضة. وإذا كان هذا هو موقف السودان من اتفاقية 1959، لحاولت محاولة جادة دعم جهود مصر فى تقليل سعة سد النهضة وبالتالى تقليل مقدار العجز المائى فى إيراد النهر الذى سوف تقتسمه الدولتان معاً.
وذكر السيد الوزير السودانى أن مصر جمدت أنشطتها فى مبادرة حوض النيل منذ 2010، وهذا ليس صحيحاً، بل الصحيح أن السودان هى التى جمدت أنشطتها فى المبادرة فى أغسطس عام 2010 وأعلنت ذلك فى خطوة شجاعة رداً على التوقيع المنفرد لدول المنبع على اتفاقية عنتيبى. ورفض وقتها السيد الرئيس الأسبق مبارك اتخاذ موقف مماثل بالرغم من مطالبتى أنا شخصياً للرئاسة بالاحتذاء بالسودان. وتم تعيين سكرتير مصرى للمبادرة ذلك العام، ولكن تم الاتفاق مع السودان على عدم حضور مصر لأى اجتماع لا تحضره السودان فى المبادرة. وشاركت كل من مصر والسودان فى اجتماعات مجلس وزراء دول حوض النيل عام 2011، واجتماع حوض النيل الشرقى عام 2012، ثم توقفت مصر عن الحضور بعد ذلك لأسباب لا أعلم تفاصيلها الدقيقة.
وتحدث السيد الوزير الإثيوبى فى هذا الحوار عن الاستخدام العادل والمنصف للمياه كمبدأ رئيسى فى القانون الدولى للأنهار المشتركة، متجاهلاً تماماً الاتفاقيات التاريخية التى كانت إثيوبيا المستقلة طرفاً فيها. وتجاهل سيادته مبدأ القانون الدولى للإخطار المسبق، واشترط عودة مصر لمبادرة حوض النيل لإعطائها معلومات عن السدود الجارى بناؤها أو المخطط لها. والحقوق التاريخية لمصر فى مياه النيل تستند إلى العديد من الاتفاقيات التاريخية أهمها اتفاقية 1902 مع إثيوبيا والتى تعهدت فيها الأخيرة بعدم إقامة أى مشروعات مائية على بحيرة تانا والنيل الأزرق ونهر السوباط تؤثر على تدفقات نهر النيل، واتفاقية 1929 والتى تقر بحصة مصر المائية وعدم إقامة أى مشروعات مائية على بحيرات وأنهار الهضبة الاستوائية تؤثر على تدفقات نهر النيل، واتفاقية 1959 مع السودان التى تقر بحصة مصر المائية. واتفاقيتا 1902 و1929 وهما من الاتفاقيات الحدودية التى ينطبق عليها ما جاء فى المادة 12 من اتفاقية فيينا لعام 1978، والتى تؤكد عدم تأثر الاتفاقيات ذات الطابع الإقليمى بالتوارث الدولى مما يبطل ادعاءات دول المنبع بأن هذه الاتفاقيات استعمارية ولا تلزمهم بأحكامها، علما بأن اتفاقية 1902 وقعها الإمبراطور الإثيوبى مينليك الثانى وكانت إثيوبيا دولة مستقلة. وحقوق مصر التاريخية فى مياه نهر النيل هى حقوق مستقرة عبر آلاف السنين حيث قامت على ضفافه فى مصر أعرق حضارات عرفتها الإنسانية. ومبدأ الإخطار المسبق فى الأنهار الدولية من القواعد المستقرة فى أحكام القانون الدولى وذلك من خلال عدة اتفاقيات وإعلانات دولية منها قواعد هلسنكى لعام 1966، والمادة 8 من اتفاقية الأمم المتحدة للاستخدامات غير الملاحية فى الأنهار الدولية لعام 1997، وقواعد برلين التى تبناها مجمع القانون الدولى عام 2004.
وقد تلجأ مصر فى حالة عدم نجاح التفاوض مع إثيوبيا إلى المسار القانونى سواء بالالتجاء إلى محكمة العدل الدولية أو إلى مجلس الأمن الدولى لرفع الضرر الناتج عن السد والذى يهدد الأمن والسلم الإقليميين والدوليين.