فى المؤتمر الصحفى الذى عُقد يوم 14 يوليو 2015، بعد التوقيع مباشرة على الاتفاق النووى الإيرانى، علق وزير الخارجية الأمريكى آنذاك جون كيرى، قائلاً: «عندما عدت من حرب فيتنام قطعت على نفسى عهداً بعدم تكرار أى حرب مرة أخرى».
يبدو أن إيران فهمت تلك الرسالة على نحو صحيح؛ لذلك فهى خاضت المناقشات والمحادثات كلها مع الولايات المتحدة وغيرها من الدول الكبرى، وهى تدرك أن خيار الحرب ليس على الطاولة غالباً.
ويبدو أيضاً أن واشنطن خاضت تلك المفاوضات وفى ذهنها ذلك الانطباع الذى عبّر عنه «كيرى»، خصوصاً بعد حربين إحداهما فى العراق، والأخرى فى أفغانستان، تمخضتا عن نتائج كارثية.
عشية توقيع الاتفاق النووى فى 2015، اختارت الولايات المتحدة أن تعقد اتفاقاً يُمكّنها من إرجاء الخطر الناجم عن تطوير سلاح نووى إيرانى لأكبر وقت ممكن، لأنها لم تكن قادرة على منع ذلك تماماً عبر شن الحرب بسبب «الخوف من تكاليف القتال الموجعة».
وقد تبلور خيار واشنطن فى القبول بحل يضع شروطاً وقيوداً على البرنامج النووى الإيرانى، بما يرجئ عملياً تطوير السلاح النووى، مقابل إعطاء امتيازات لطهران، على أن يكون ذلك وفق اتفاق، يؤمن فترة زمنية من عشر سنوات إلى خمس عشرة سنة، يمكن خلالها بناء «آليات احتواء» مشابهة لتلك التى سبق أن بنتها الولايات المتحدة مع دول نووية من خارج المعسكر الغربى.
كانت واشنطن قد اعتمدت «سياسة الاحتواء المزدوج» مع كل من إيران والعراق، فى الفترة التى أعقبت الثورة الإسلامية فى الأولى، وتزامنت مع الصعود القوى لنظام صدام حسين فى الثانية، طوال حقبة الثمانينات من القرن الماضى.
وبسبب خروج العراق من الحسابات، لم يعد أمام واشنطن، التى لن تحارب إيران، سوى أن تغير سياسة الاحتواء المزدوج، وتبحث عن حل بديل. لقد وجدت واشنطن وحلفاؤها فى مجموعة «5+1»، أن تطوير سياسة «ردع واحتواء» للجمهورية الإسلامية يمكن أن يكون حلاً مقبولاً، سواء فى فترة ما قبل تطوير السلاح النووى، أو بعد تطويره.
لكن إيران وجدت فى الاتفاق فرصة لممارسة نفوذ واسع وضغط قوى على جيرانها فى إقليم الشرق الأوسط، كما لم تتوقف عن دعم القلاقل الأمنية والمجموعات الإرهابية فى كثير من البلدان، واستطاعت أن تصدّر مخاطر كبيرة لدول رئيسية فى العالم العربى ترتبط بتحالفات استراتيجية مع الولايات المتحدة والمعسكر الغربى.
والواقع أن تلك الاتفاقية انطوت على مثالب كثيرة، استناداً إلى أنها منحت إيران الحق فى الاستمرار فى برنامجها النووى السلمى المفترض، عبر رفع القيود الرئيسية المفروضة عليه، مما يسمح لها بامتلاك عدد غير محدود من أجهزة الطرد المركزى، للقيام بتخصيب غير مقيد لليورانيوم، بشكل مشروع.
كما منحها فرصة لتأهيل نفسها سياسياً ودبلوماسياً، عبر الإفراج عن ودائعها المجمّدة، كما تم رفع العقوبات المفروضة على وارداتها فى قطاعات حساسة، فى وقت لم ينجح فيه فى إنهاء فرص تطويرها سلاحاً نووياً بشكل قاطع.
لهذه الأسباب، أقدم الرئيس الأمريكى السابق ترامب على إلغاء الاتفاق، وهو الأمر الذى وجدته إيران موجعاً لها من جانب، وعملت على استغلاله فى التنصل من التزامات أساسية فيه، بما يسرع برنامجها النووى من جانب آخر.
وبمجرد وصول بايدن إلى السلطة فى واشنطن، عمد، كما فعل أوباما تماماً، إلى التفاوض مجدداً مع الإيرانيين للوصول إلى اتفاق جديد، وهو الأمر الذى انطلقت من أجله المحادثات فى فيينا فى العام الماضى.
لكن المحادثات فى فيينا تعثّرت لعدد من الأسباب؛ أولها أن الإيرانيين يريدون رفعاً كاملاً لشتى أنواع العقوبات المفروضة عليهم، بينما يرى الأمريكيون أن ذلك صعب للغاية لتشعّب تلك العقوبات وتعدّد تصنيفاتها المؤسسية والتشريعية.
وثانيها أن الإيرانيين يريدون ضماناً لعدم انسحاب أى إدارة أمريكية مقبلة من الاتفاق مثلما فعلت إدارة ترامب، بينما لا يملك الأمريكيون رفاهية إعطاء ذلك الوعد؛ إذ يمكن بالفعل أن تأتى إلى البيت الأبيض إدارة جديدة تنتهج نهجاً مغايراً فى الملف الإيرانى.
وثالثها أن الإيرانيين يريدون إنهاء تصنيف «الحرس الثورى» بوصفه كياناً إرهابياً، وهو أمر حساس وبالغ الحرج بالنسبة إلى الإدارة الأمريكية.
وفى ظل هذا الانسداد الذى اعترى المحادثات فى فيينا تقدّمت قطر بمقترح لاستضافة محادثات ثنائية أمريكية - إيرانية غير مباشرة فى الدوحة، برعاية أوروبية، بغرض تفكيك المسائل الخلافية ومحاولة تجاوزها، وهى المحادثات التى انطلقت فى الأسبوع الماضى.
وبينما تسعى أطراف كثيرة إلى حلحلة المواقف وتجاوز نقاط الخلاف بين الجانبين للوصول إلى حل وسط، لا يكاد يُسمع صوت للخليجيين والعرب، رغم أن السلوك الإيرانى مؤثر بشدة فى أمن المنطقة واستقرارها.
ثمة هواجس أمنية كثيرة تعترى المنظومة الخليجية والأمن القومى العربى إزاء السلوك الإقليمى الإيرانى؛ وهى هواجس يمكن تركيزها فى محاور امتلاك السلاح النووى، والتدخّلات فى الشئون الداخلية ودعم الإرهاب، والقدرات الصاروخية المتنامية، وللأسف الشديد فإن هذه الاعتبارات لم تُطرح على موائد النقاش.
سيكون التوصّل إلى اتفاق نووى مع إيران يبعد شبح الحرب ويعالج أى انكشاف أمنى محتمل فى المنطقة عملاً مهماً ومرغوباً، لكن عدم مراعاة الاعتبارات الأمنية لدول الخليج، ولغيرها من الدول العربية، وتجاهل شواغلها الضرورية، سيظل يُحد من كفاءة وعدالة مثل هذا الاتفاق.