72 ساعة من النشاط الإرهابى بشوارع باريس وضواحيها كانت كفيلة دون شك بتغيير المشهد الأوروبى بكامله، هكذا هى دوماً العمليات الإرهابية والجرائم الكبيرة، أول ما تستهدفه مباشرة بعد ضحاياها يكون هو الملفات المغلقة أو المسكوت عنها، فمن قبل أن تمر الـ72 ساعة المذكورة بدا أن أول المسكوت عنه أوروبياً أن هناك خلايا نشطة ومدربة جيداً موجودة فى العواصم الأوروبية، تمارس على الأقل عملاً لوجيستياً مرتبطاً بالتنظيمات الإرهابية الموجودة بالدول العربية. «شريف كواشى» أحد المتهمين بالاعتداء على جريدة شارلى إيبدو، والذى قام الأمن الفرنسى بتصفيته أثناء عملية الملاحقة، دخل العالم الإرهابى منذ العام 2005م، وفى 2008م تأكد عمله ضمن خلية تقوم بتجنيد وتسهيل سفر الشباب العربى إلى العراق للانضمام إلى تنظيم القاعدة فى بلاد الرافدين، تلك المعلومات كانت تحت أيدى أجهزة الأمن الفرنسية، فقد حُكم على شريف بالسجن وقضى عقوبة بسيطة (18 شهراً) ليخرج بعدها ويستكمل نشاطه الإرهابى، الخلية التى عمل شريف من خلالها خرجت عن النص مرتين، مرة عندما اتهم أحد أعضائها بالتخطيط لتفجير السفارة الأمريكية بباريس (جمال بيغال، حُكم عليه بعشر سنوات)، والمرة الثانية عندما تورط عضو مهم فى الخلية (أبوبكر الحكيم) فى اغتيال رجلَى المعارضة التونسية اليساريين شكرى بلعيد ومحمد براهمى عام 2013م، و«الحكيم» من المفترض أنه مطلوب من السلطات التونسية وغير معلوم إن كان الأمن الفرنسى قد سلمه لتونس أو لا حتى الآن!!
فيما غير هذين الخروجين عن النص صمت الأمن الفرنسى عما عداهما من نشاطات أخرى فاضحة وكاشفة، المعلومات بالافتراض كانت تحت يد أجهزة فرنسا والأجهزة الأخرى العاملة بقوة فى الساحة الأوروبية، ظهرت أسماء الشقيقين شريف وسعيد كواشى بتحركاتهما وموقعهما التنظيمى على لسان الجانب الأمريكى أثناء عملية الملاحقة وقبل التصفية الجسدية، وهو ما أثار لغطاً كثيراً، والتقرير الأمنى الأمريكى هو الذى حدد صلات سعيد كواشى بفرع القاعدة فى اليمن، وتكشف سريعاً تواريخ سفر سعيد إلى هناك ثم العودة إلى باريس وصلاته التنظيمية بناصر الوحيشى قائد هذا الفرع من القاعدة. الإجابة الأمنية الوحيدة عن كل هذا الكم من المعلومات التى خرجت للنور خلال ساعات أن الأجهزة الأمنية الأمريكية والأوروبية كانت تغض الطرف عن تلك الخلايا ما دام عملها يقتصر على ضخ النشاط والعمل الإرهابى فى الساحة العربية، ويرتبط هذا أيضاً بقدرة تلك العناصر من مهاجرى الجيل الثانى والثالث من ذوى الأصول العربية على العيش بحرية تحت جلد العواصم الأوروبية.
ما بدا مسكوتاً عنه أيضاً هو تلك الفجوة العميقة ما بين الولايات المتحدة الأمريكية وبعض من الدول الأوروبية فى مجال تداول المعلومات الأمنية الهامة، وفرنسا بموقفها المتمايز إلى حد ما عن الموقف الأمريكى دفعت ثمن ذلك بغياب التحذيرات الأمريكية عنها فى لحظات الخطر المتوقع، فإشارات التنبؤ بانتقال شظايا حرب التحالف ضد الإرهاب فى كل من سوريا والعراق كانت تحدد أوروبا وأمريكا كأماكن تطالها تلك الشظايا، وهنا تتفوق باريس للأسف عن أى من العواصم الأوروبية فى أوضاعها الهشة وهى من ملفاتها المغلقة أيضاً، ففرنسا ترقد على برميل بارود ثلاثى الأبعاد: الفرنسيين اليمينيين، والمهاجرين العرب، والأفارقة الفرانكفونيين فى موزاييك يضعها فى موقع الأسرع بالانفجار.. وهو ما حدث بالفعل!!
هشاشة تلك الأوضاع الاجتماعية وتعقيداتها هى الباب السحرى لدخول الإرهاب بخطواته الصامتة بداية إلى أى دولة، ثم يبدأ فيما بعد ذلك يقتات على هذا التناقض ليتمدد ويتداعى، وهذا ما دعا القادة الأوروبيين للهرع إلى مساندة فرنسا بجدية، فلكل منهم تناقضاته الخاصة داخل دولته، وهو ما يدعو للخوف المشترك، مفارقة قدرية دالة من الناحية الزمنية والموضوعية، فقبل 12 ساعة فقط من الحادث الإرهابى بباريس، فى ليل 6 يناير، كان الرئيس المصرى عبدالفتاح السيسى يقف داخل الكاتدرائية المرقسية بالعباسية يحضر كرئيس مصرى لأول مرة قداس عيد الميلاد، ويتحدث للمصريين فى كلمة موجزة مهنئاً ومؤكداً على شىء واحد كرره بطريقته المحببة، أن من الضرورى جداً أن نكون «مصريين جميعاً وفقط»، وشدد بأن هذه هى رسالتنا لأنفسنا وللعالم إن كنا نريد أن نواجه الصعاب، دلالة الخطوة الرئاسية والكلمات لم تكن تعنى غير التأكيد على نبذ الفُرقة وترسيخ مشهد التوحد، لرئيس يمتلك مهارة الرؤية الأوسع ويحمل نفس الهم لمواجهة المعركة قبل ساعات من الحدث الباريسى، من نفس تلك المنطقة وتحت أول عناوين التغيير فى الخطاب الأوروبى، كان الرئيس الفرنسى فرانسوا أولاند ووزير داخليته يلحان على مفهوم التضامن الشعبى والتوحد فى المواجهة، وذكرا ذلك 12 مرة بنفس العبارات، فى خطابات ورسائل رسمية فى نفس تلك الومضة الزمنية القصيرة الـ72 ساعة.