أولادكم ليسوا لكم، أولادكم أبناء الحياة المشتاقة إلى نفسها، بكم يأتون إلى العالم ولكن ليس منكم، ومع أنهم يعيشون معكم، فهم ليسوا ملكاً لكم. تستطيعون أن تمنحوهم محبتكم، ولكنكم لا تقدرون أن تغرسوا فيهم بذور أفكاركم، لأن لهم أفكاراً خاصة بهم.
وفى طاقتكم أن تصنعوا المساكن لأجسادكم، ولكن نفوسهم لا تقطن فى مساكنكم، فهى تقطن فى مسكن الغد الذى لا تستطيعون أن تزوروه حتى ولا فى أحلامكم، وإن لكم أن تجاهدوا لطى تصيروا مثلهم، ولكنكم عبثاً تحاولون أن تجعلوهم مثلكم، الحياة لا ترجع إلى الوراء، ولا تلذ لها الإقامة فى منزل الأمس.
أنتم الأقواس وأولادكم سهام حية قد رمت بها الحياة عن أقواسكم، ما أروع ما كتب جبران خليل جبران فى كتابه «النبى» قبل مائة عام بالتمام والكمال.
وما أغرب أننا لا نقرأ، وإن قرأنا لا نفكر، وإن فكرنا لا نعى، وإن وعينا نحارب الفكرة ونجاهد من أجل مقاومتها مقاومة مسلحة عتية عنيفة لإرهاب صاحب الفكرة ومن يؤمن بها، وتحقيق النصر العظيم عبر تخويفه وترهيبه ومنعه من طرح المزيد، لا لأنه اقتنع بخطأ فكرته، بل لأنه يخشى على نفسه من الوقوع ضحية للترهيب.
والعجيب والغريب أننا حين نقوم بإحدى هذه الغزوات «الفكرية» - حيث نحارب الفكرة بالشتيمة والطرح بالوصم والدعوة للتفكير بالتكفير - فننجح فى إخراس الفكرة وإبطال التفكير ووأد النقد، نظن أننا فزنا وانتصرنا وأن الغزوة قد حققت غاية المنى وكل الأمل.
أتصور لو كان جبران يعيش بيننا هذه الأيام، لجرجروه فى المحاكم، واتهموه بالكفر وإشاعة الرذيلة، ووصموه بمحاربة العادات وهدم التقاليد، واعتبروه خطراً على الفكر (المغلق بالضبة والمفتاح) والأخلاق (التى تعانى الأمرين) والضمير (وهو بعافية)، ولو قرأوا كتبه، وتمعّنوا فى أفكاره - وأشك أن يحدث هذا، فكم من قارئ يقرأ بغرض التحفز لا من أجل التفكير والنقاش الهادئ.
نشأ أغلبنا فى البيت وفى المدرسة على أن النقاش رجسٌ من عمل الشيطان، وحتى قبل هجمة تدين السبعينات الشرسة التى فرغت مفهوم الدين الشعبى من السماحة وإعمال العقل وكذلك من مضمونه الأهم ألا وهو أن يكون عنوان المتدين الأخلاق السامية والوجه البشوش لا الأخلاق المتزمتة الكارهة للآخر، ولو كان الآخر منه ولكن بشكل مختلف.
وبات العبوس والتجهم وحديث النار والعذاب والبؤس مهيمناً مسيطراً، فإن فكرة النقاش بناء على علم ومعرفة ومبدأ النقد دون تجريح ترتبط بثقافة قوامها أن «الرموز» لا تخطئ، وأن «الأيقونات» الشعبية ترفع شعار «لا مساس»، وأن من ننصّبهم مثلاً أعلى منزّهون عن النقد أو مراجعة الفكر.
التفكير فى إصلاح التعليم إصلاحاً جذرياً لن يتحقق من قريب أو بعيد طالما نلف وندور فى دائرة تخفيف المناهج، أو دمج قصة فى كتاب القراءة عن «محمد» الذى أنقذ «جرجس»، أو كيف أن «بابا» يعمل وكذلك «ماما»، مع الإبقاء على أجواء النقاش فى الفصل مغلقة بالضبة والمفتاح.
كيف يمكن لمدرس أو مدرسة أن يقبل سؤالاً مثلاً من تلميذ عن سبب قيام رمز دينى بتحريم شىء ما طالما المدرس «يقدس» هذا الرمز؟
وكيف يمكن أن نتصور أن يخرج جيل من القادرين على البحث العلمى القائم فى الأصل على إتاحة بيئة صديقة للنقد وطرح الأسئلة، لا «مكفَرة» معادية متربصة بها.التفكير النقدى هو جوهر البحث العلمى، فالعالِم -أقصد العالم فى الكيمياء والفيزياء والأحياء وتطوير الدواء واللقاح وغيرها من فروع العلم التى نحيا ونعالج ونبقى على قيد الحياة بفضل ابتكاراتها- هو الشخص الذى لا يتوقف عن التساؤل حول أسباب حدوث الأشياء وكيفية حدوثها.
والعلم لا يتقدم بالنية أو بالرغبة أو بـ«نقش» بحث علمى منشور فى دورية أجنبية أو بإعادة تدوير أبحاث قام بها آخرون ونسبها إلى آخرين كذباً وزوراً وبهتاناً (فنتذكر أن الكذب حرام)، ولكن يتقدم ويسير من مرحلة إتاحة دواء لتخفيف الصداع إلى ابتكار علاج يوقف نمو السرطان حين يجد العالم الحقيقى معلومات ونتائج تتعارض مع ما كان موجوداً قبلها، وإلا ما استشعر الحاجة للتفكير والبحث والوصول إلى جديد.
أقرأ حالياً قواعد تدريس التفكير النقدى فى العلم الموضوعة من قبل أستاذ بريطانى، وجاء ضمن ما فيها أن على المعلم أن يطرح مشكلة أمام الطلاب للنقاش شرط أن تحتوى على محتوى يناقض القوالب الجامدة المتجذّرة فى أدمغتهم، ثم يبدأ فى طرح أسئلة عليهم تدفعهم إلى التفكير فى اتجاهات مختلفة وربما متناقضة.
عليه أن يوجههم نحو طريقة التفكير، وليس محتوى التفكير، فلو وجّههم نحو محتوى التفكير، وأملى عليهم ما يفكرون، فعلى العلم السلام، وعلى التعليم السلام، وعلى الابتكار السلام، ولنبقى أسرى لما قاله الأولون فهو يكفينا ويفيض، ولنوفر فلوس التعليم والعلم للأكل والشرب والتكاثر.