سأحاول أن أضع العاطفة جانباً، سأحاول أن أتخلى قليلاً عن أى انحياز أو انتماء.
فى السابع من أكتوبر الماضى شنت جماعة من الفلسطينيين ما سموه «طوفان الأقصى»، كواحدة من كبرى العمليات ضد إسرائيل. أقدموا على ذلك بدافع أنهم أصحاب أرض يقاومون سلطة احتلال.
عقب الطوفان الفلسطينى، شنت إسرائيل طوفانها الأوسع الذى يدخل الآن يومه المائة تحت زعم أنها تدافع عن نفسها وتحمى أمنها وتستهدف تصفية جماعة «حماس» المسئولة عن الهجوم.
هكذا كان المشهد فى اللحظة الأولى.
مع هذه اللحظة كانت إسرائيل تستحوذ على عاطفة الرأى العام العالمى. شنت العدوان وهى متسلحة بالطائرات الحديثة والمدرعات وقاذفات الصواريخ ودعم «واشنطن» غير المحدود وغطاء أوروبا الذى يحاول إضفاء مسحة أخلاقية على كل هذه الجرائم.
لكن العدوان الإسرائيلى لم يستهدف «حماس» كأفراد أو قادة وحدهم، ولم يقتصر عند ردة الفعل. بل انتهجت إسرائيل عمليات استهداف منظمة للمدنيين والمنازل والمستشفيات والمدارس والأسواق والمساجد والكنائس، أسفرت فى 100 يوم عن سقوط 100 ألف فلسطينى، ما بين شهيد ومصاب ومفقود، أغلبهم من الأطفال والنساء.
وفق أى قانون دولى، ووفق أى مبادئ إنسانية، وبعيداً عن أى انحياز عاطفى أو أخلاقى أو قومى، هذه جريمة حرب منظمة اقترفتها إسرائيل تحت مرأى ومسمع العالم كله.
انقسم العالم المتحضر بين التضامن أو الصمت. «القاهرة» وحدها هى العاصمة الوحيدة التى تحركت فى الأيام الأولى من هذه الجريمة فى محاولة مخلصة لإيقافها والوصول إلى هدنة، ثم الوصول إلى قرار بوقف إطلاق النار، ثم إحياء للمسار السلمى نحو حل الدولتين الذى يضمن أمن وسلام المنطقة بالكامل.
«قمة القاهرة للسلام» فى 21 أكتوبر الماضى كانت الحجر الأول الذى يُلقى فى الماء الراكد. كانت الضوء الذى أعطى صورة كاملة لما يحدث، وأننا لسنا أمام عملية عابرة ولا ردة فعل محدودة، بل نحن أمام حقوق تاريخية مشروعة للفلسطينيين وسيناريوهات إسرائيلية نحو التصفية والإبادة.
ساهمت «قمة القاهرة» فى تغيير نسبى للموقف الدولى من التأييد الأعمى لإسرائيل، إلى شىء ما من الموضوعية والعقلنة. يمكن رصد ذلك بوضوح فى مستوى التصريحات والمواقف قبل «قمة القاهرة»، ثم بعد «قمة القاهرة»، شىء ما تغير، ومواقف ما تحركت.
نجحت مصر أيضاً فى كشف سيناريو آخر كانت هناك خطة للتعتيم عليه وتمريره فى الخفاء، وهو سيناريو التهجير القسرى. لم يكن هناك تفسير لكل هذا التوحش فى القصف الإسرائيلى لكل ما هو حى داخل قطاع غزة إلا عندما فضحت الإدارة المصرية هذا السيناريو أمام العالم فى أكثر من لقاء وخطاب.
الكشف المصرى المبكر على لسان الرئيس المصرى لسيناريو حكومة نتنياهو بعثر كل الأوراق، وأجهض ما كان مخططاً. أكد الرئيس السيسى بوضوح ولسان مبين، وبتعبير صادق، عن إرادة وعزم جميع أبناء الشعب المصرى فرداً فرداً: «أن تصفية القضية الفلسطينية، دون حل عادل، لن تحدث، وفى كل الأحوال لن تحدث على حساب مصر».
واصلت إسرائيل جرائمها ضد المدنيين، وواصلت مصر تحركاتها السياسية والدبلوماسية والأمنية لإنفاذ وتمرير أكبر قدر ممكن من المساعدات الإنسانية إلى قطاع غزة، مع استمرار فضح الجرائم الإسرائيلية وكشف سيناريو التصفية والتهجير.
شيئاً فشيئاً تغيرت مواقف الحكومات والقادة. حتى «واشنطن»، أقرب حلفاء إسرائيل، أخذت خطوات إلى الوراء -ولو من باب حفظ ماء الوجه- أمام كل هذه الدماء التى أسقطت أقنعة العالم المتحضر وفضحت سوءات المجتمع الدولى الحديث الذى بإمكانه أن يتشدق بحقوق الإنسان والحيوان والبيئة والمناخ، لكن ليس بإمكانه أن يمنع قصف أحياء كاملة بكتل النار والبارود أو سفك دماء أكثر من 24 ألف إنسان حتى كتابة هذه السطور.