كلمة الأسعار لم تعد تشكل مثار الاهتمام والهاجس الأكثر تأثيراً فقط على نطاق الشرائح محدودة الدخل، لكنها امتدت إلى الفئات المقتدرة مادياً. على مدى أشهر عديدة عاشت السوق المصرية حالة من الجنون، وعدم استقرار الأسعار، تضارب كبير بين البنوك والسوق الموازية فى أسعار صرف العملات الأجنبية -أبرزها الدولار- حتى تم القضاء على هذه الظاهرة السلبية بمجموعة قرارات اقتصادية حاسمة أصدرتها الحكومة إثر تصريح للرئيس عبدالفتاح السيسى أن أزمة عدم استقرار سعر العملة ستنتهى خلال فترة قصيرة، وهو ما حدث بالفعل. بديهياً جاءت توقعات المواطن أن يواكب هذه الخطوة تراجع فى الأسعار. صحيح أن السلع الغذائية الأساسية شهدت استقراراً وتراجعاً فى أسعارها، لكن ليس بالقدر الذى كان يرجوه المستهلك البسيط.
خلال احتفالية عيد الأم بشهر مارس الماضى وجَّه الرئيس عبدالفتاح السيسى رسالة واضحة إلى التجار المتلاعبين بالأسعار على حساب المواطنين أنه حال عدم جدية استجابتهم لجهود الحكومة فى خلق توازن فى الأسعار يضمن لهم هامش ربح محدداً بعيداً عن المبالغة، فإن الحكومة يمكنها التدخل بضخ تمويل للسلع يضمن خلق توازن فى الأسعار. خلال الفترة الماضية طرح عدد من كبار مُصنِّعى ومُنتجى ومُوزعى السلع الغذائية ومُمثلى كبريات السلاسل التجارية مبادرة لخفض الأسعار بنسب تكون مقدمة إلى خفض أكبر خلال تعاون بين الحكومة والقطاع الخاص، وهى بالتأكيد خطوة فى الاتجاه الصحيح، لكن الأهم يكمن فى التفاصيل والنتائج.
أهمية إبعاد وحلول الأزمة التى شهدتها الأسواق، كما استغرق فى تناولها بالبحث والتحليل خبراء الاقتصاد، بالتأكيد تستدعى اكتمال منظومة نجاحها بضبط العامل الإنسانى. من حق المواطن مطالبة الحكومة باتخاذ إجراءات صارمة فورية لضبط الأسعار وسرعة تطبيق البرامج الإصلاحية، بالإضافة إلى تكثيف الإجراءات الرقابية وتنفيذ فورى للعقوبات ضد من لا يزالون يراهنون على عدم جدية القرارات الحكومية، ماضين فى جرائم احتكار السلع وبيعها بأسعار مبالغة دون الالتزام بهامش ربح معقول. بالتالى كل المبادرات والقرارات السابقة ستكتمل جدواها مع تدخُّل الحكومة لضبط التجارة الداخلية بالتعاون مع أجهزة الدولة المختلفة بما فيها حماية المستهلك، الأجهزة الشرطية المختلفة، مباحث التموين، وباقى الأجهزة الرقابية.
على الجانب الآخر، الجشع الغالب بين فئة من التجار على أى اعتبارات إنسانية أو منطقية حوَّل المواطن إلى ضحية لفئة المفترض أنها ضمن شرائح المجتمع وليست جهة معادية تستنزف المستهلك الأعزل دون أى اهتمام بالأضرار الاقتصادية التى قد تسببها هذه الممارسات الانتهازية، بل إن هذه الأضرار قد ترتد إلى ممارسيها عند احتياجهم شراء سلع أخرى مثل الأدوات الكهربائية، السيارات، أدوات قطع الغيار المختلفة. هى دائرة خبيثة من الفوضى لن تستثنى فئة محددة. الأسس والقواعد الاقتصادية التى تحكمها حقائق الأرقام لا تستثنى حقيقة ارتباط تحقيق الانتعاش الاقتصادى بالعامل الأخلاقى والإنسانى. المواطن التاجر، أياً كان مجال تجارته، هو شريك أساسى فى منظومة ضبط الأسعار.. هو جزء مهما بلغت بساطته من اقتصاد البلد.
بعد تجاوز خطوات كبيرة من الأوقات الحرجة اقتصادياً والقضاء على السوق الموازية للدولار، يبقى أمام التاجر الاختيار، سواء الانحياز إلى نظرة عامة تصب فى صالحه الشخصى عبر دعم أسعار منضبطة للسوق فى مختلف السلع، ما سيعود عليه بمكاسب أكبر على المدى الطويل بدلاً من النظر إلى تحت قدميه طمعاً فى مكسب قريب محفوف بمخاطر وأضرار تعرضه لإجراءات عقابية صارمة. المستهلك ينتظر من التاجر وعياً يتجاوز مكسب عشرات الجنيهات من جيب الأول.. نحن جميعاً على مركب واحد، إما أن نستكمل تجاوز الظروف الصعبة التى صارحنا بها الرئيس عبدالفتاح السيسى خلال إفطار الأسرة بأنها ما زالت موجودة والسبيل إلى تجاوزها لن يتحقق إلا بتكاتف طرفى المعادلة الشعبى والرسمى.
مصر، وفق تقارير سابقة لمجموعة الأزمات الدولية، صمدت بشكل أكبر من المتوقع مقارنة بمعاناة عدة دول من تبعات جائحة «كوفيد»، لكن تعطل سلاسل الإمداد فى الحبوب وارتفاع أسعارها إثر اندلاع الحرب الروسية - الأوكرانية كان له أثر كبير فى الأزمة الاقتصادية التى مرت بها مصر خلال المرحلة الماضية.. إذ تُعتبر ضمن أكبر مستوردى الحبوب فى العالم. حالياً، كل تقارير كبرى المؤسسات الاقتصادية الدولية تؤكد أن مصر تسير على الطريق الصحيح للخروج من الأزمة الاقتصادية، وكل المؤشرات تدل على أن الحكومة خلال الأشهر الماضية سرّعت الخطى فى إجراءاتها، لكن المستهلك ما زال ينتظر المزيد من وجود لجان لمراقبة الأسعار وانخفاضها على أرض الواقع.