قبل سنوات قليلة رَوَّجت جهات عديدة، من بينها مراكز أبحاث عالمية، لفكرة انتهاء عصر قناة السويس، وتراجع دورها فى الملاحة البحرية، والتبشير بظهور مشاريع بديلة أكثر ملاءمة للنمو السريع فى حجم التجارة الدولية، وتطور صناعة السفن، والاتجاه نحو استخدام الحاويات العملاقة. لم يكن يخطر ببال أكثر المراقبين اهتماماً أن الإرادة الوطنية المصرية ستفاجئ العالم بمشروع جديد موازٍ لقناة السويس الأم، يستوعب التوسع المتوقع فى حركة التجارة العالمية حتى منتصف القرن الحالى. فالقناة الأم التى كان يمر بها 10 بالمائة من تجارة العالم المنقولة بحراً من المتوقع أن يعبرها نحو 30 بالمائة فى 2030 بعد زيادة نصيب الصين من تجارة الصادرات العالمية. والصين وحدها هى أكبر مستخدم لقناة السويس، حيث تمثل بضائع الصين حوالى 35 بالمائة من إجمالى البضائع التى تمر فى القناة. وهى نسبة من المتوقع أن تزيد. كانت الحمولات العابرة للقناة فى 2007 تقدر بحوالى 848 مليون طن، من المتوقع أن تزيد إلى مليار و976 مليون طن، وسيزيد المتوسط اليومى لأعداد السفن العابرة من 45 إلى 97 سفينة فى 2023.
كان مشروع قناة السويس الجديدة حتمياً، فالقناة هى شريان الاقتصاد العالمى، وهى أقصر طريق يربط البحرين الأحمر والمتوسط. وتحقق هذه القناة وفراً فى المسافة بين طوكيو وميناء نوتردام فى هولندا بنسبة 23 بالمائة مقارنة برأس الرجاء الصالح، كما تحقق وفراً فى المسافة بين ميناء جدة وميناء كونستانزا بالبحر الأسود بنسبة 86 بالمائة. وستؤدى القناة الجديدة إلى اختصار زمن عبور القناة من 18 ساعة إلى 11 ساعة، وتقليل ساعات الانتظار من 11 ساعة إلى 3 ساعات فقط، وهو ما يفى بمتطلبات الحاويات العملاقة، ويدعم فى الوقت نفسه من القدرة التنافسية لقناة السويس فى وجه المشاريع والطرق البديلة القائمة والمحتملة. وهو مشروع يشبه عصا موسى ألقت به مصر فى وجه السحرة فالتهم كل مشاريعهم البديلة!
كانت المشاريع الإسرائيلية المقترحة هى أكثر المشاريع البديلة رواجاً وصيتاً وحولها دار جدل، وحدها قناة السويس الجديدة هى التى قطعت حباله المهترئة.
تشمل المشاريع الإسرائيلية خطوطاً برية كالخط البرى بين أشدود وإيلات، وخطوط أنابيب مثل إحياء خط أنابيب حيفا- كركوك الذى تجدد الحديث حوله بعد الغزو الأمريكى للعراق، ثم ران صمت مطبق على المشروع بسبب النزاع العراقى الكردى على كركوك، لكن أخطر هذه المشاريع الإسرائيلية وأكثرها ذيوعاً مشروع قناة البحرين الإسرائيلى الذى يربط بين البحر المتوسط والبحر الميت، ويمتد عبر صحراء النقب من خليج العقبة (ميناء إيلات) إلى أشدود على البحر المتوسط. وهو مشروع دونه صعوبات فيزيقية وطبيعية وفنية واقتصادية، ناهيك عن وجود قناة منافسة بجواره وهى قناة السويس. وفى حالة استخدام قناة البحرين فى الملاحة، فإن قناة السويس ستتعرض لخسائر مؤكدة، لأنها ستسهل نقل الحاويات سعة 60 قدماً والتى تحتاج إسرائيل إلى 18 ساعة لنقلها من البحر المتوسط إلى ميناء إيلات، حيث كان من المرجح -لو صحت التوقعات- أن تخسر قناة السويس ما يتراوح بين 25 بالمائة إلى 30 بالمائة من دخلها، لأن شق القناة الإسرائيلية سوف يخفض معدل الملاحة ومرور ناقلات النفط، وقطعاً سوف تضطر مصر لخفض رسوم العبور فى قناة السويس. أما الطرق البرية ومنها الخط البرى بين أشدود وإيلات الذى يمر داخل إسرائيل، ويربط ميناء أشدود وحيفا على البحر المتوسط وميناء إيلات على البحر الأحمر، واستمد ميزته التنافسية من اختصار زمن النقل بين إيلات وأشدود، فقد فقدت هذه الميزة بظهور قناة السويس الجديدة.
كانت القناة، قبل مشروعها التوأم، مهددة فعلياً بمشروعات بديلة أخرى سوف يخبو بريقها بعد قناة السويس الجديدة، أشهرها إحياء «طريق الحرير الجديد» الذى يربط الصين بدول آسيا الوسطى ومنها إلى دول الاتحاد الأوروبى. ومن المتوقع أن يؤثر هذا المشروع -إذا رأى النور- على دور النقل البحرى والمركز التنافسى لقناة السويس، خاصة أن هذا المشروع مدعوم من الصين ويجد مساندة كبيرة من قبَل دول مهمة فى الاتحاد الأوروبى وإيران وآسيا الوسطى، وإن كانت دول أوروبية أخرى يساورها القلق من أن يكون الطريق الجديد جسراً لنقل الإرهاب من مواطنه الآسيوية إلى أوروبا.
سوف تبتلع قناة السويس الجديدة أساطير أخرى لا يؤيدها حتى الآن دليل تجريبى قاطع، كالرهان على تأثير التغير المناخى فى ذوبان الجليد وفتح طرق بديلة كطريق القطب الشمالى المتوقع تشغيله على مدار السنة للسفن العاملة على خطوط الشرق الأقصى وشمال غربى أوروبا. وهذه التوقعات أن -إن صحت- فهى توقعات للأجل الطويل، ما بين مائة ومائة وخمسين عاماً! عندها سوف يكون العالم نفسه مختلفاً!
ستُضعف قناة السويس الجديدة أيضاً المزايا التنافسية لخطوط السكك الحديدية المتوقع قيامها، مثل خط سكك حديد سيبيريا الذى يبدأ من موسكو إلى ميناء فيلاديفوستك الروسى على المحيط الهادى، والذى قد يؤثر على نسبة من حركة الملاحة فى قناة السويس، إلا أنه سيواجه الكثير من المشكلات أهمها تعدد عمليات الشحن والتفريغ على طول الخط، وعدم ملاءمة الظروف المناخية لنقل بعض أنواع السلع عن طريقه، وتكدس الموانئ بما يزيد من زمن الرحلة بالإضافة إلى منافسة الشركات الملاحية الأخرى. وهناك أيضاً طريق «سكة حديد الحرير» الذى افتتحته إيران فى 1996 ليربط آسيا الوسطى وقد استكملته ليصل الصين بأوروبا والشرق الأوسط والخليج العربى بالمحيط الهندى عبر أراضيها. كان لهذا الطريق قبل قناة السويس الجديدة ميزاته التنافسية، وهى اختصار مدة تسليم البضائع بين آسيا الوسطى والشرق الأوسط بحوالى أسبوع، كما يوفر منفذاً إلى الخليج العربى من بندر عباس بإيران إلى الخليج والمحيط الهندى، أما بعد قناة السويس الجديدة فميزاته التنافسية محل شك!