منذ 25 يناير 2011م، يتعرض جهاز الشرطة لحملة تشكيك مستمرة فى وطنية هذا الجهاز الحيوى المهم، وذلك على الرغم من التضحيات الجمة التى يقدمها منتسبو الشرطة كل يوم. وللتدليل على حجم هذه التضحيات، يكفى التذكير بأن عدد شهداء الشرطة منذ ثورة 25 يناير وحتى تاريخه بلغ 725 شهيداً، منهم 157 ضابطاً و334 فرداً و22 خفيراً و207 مجندين و5 موظفين، وبلغ عدد المصابين 18140 مصاباً. ولا شك أن هذه الأرقام الكبيرة تستدعى من كل مصرى شريف أن يشعر بالامتنان والعرفان لمنتسبى الجهاز الأمنى، وقد تحملت الشرطة المصرية تضحيات هائلة منذ ثورة الثلاثين من يونيو بشكل خاص، التى كان آخرها حادث العريش (حيث استشهد 8 من رجال الشرطة، 3 ضباط و5 أفراد) وحادث الهرم (حيث استشهد 6 من رجال الشرطة وأصيب نحو 15 إثر انفجار عبوة ناسفة شديدة الانفجار أثناء مداهمة قوات الشرطة لأحد العقارات).
ومع ذلك، ما زالت سهام النقد والهجوم المبالغ فيه تترى على جهاز الشرطة، ويتم التركيز على حالات التجاوز أو إساءة استعمال السلطة التى تقع من بعض منتسبى الجهاز الأمنى. ورغم وقوع تجاوزات من بعض منتسبى المهن الأخرى، كالأطباء والمهندسين والمحامين وغيرهم، فإن هذه التجاوزات لا يتم إلقاء الضوء عليها بنفس القدر الذى يحدث مع تجاوزات أفراد الشرطة، قد يكون البعض قد مر بتجربة سيئة فى أحد أقسام الشرطة أو مع أحد رجالها، ولكن ذلك لا يجوز أن يكون مدعاة للتعميم وتوجيه الاتهامات إلى هيئة الشرطة بأكملها. والغريب أن لا تقتصر الاتهامات على معسكر المشككين فى وطنية رجال الشرطة، وإنما تمتد إلى فئة أخرى من المواطنين دأبت على اتهام رجال الأمن بالتقصير.
والواقع أن جهاز الشرطة هو أحد أجهزة الدولة المصرية، ومنتسبيها هم جزء من الشعب المصرى، وقد اعترى هذا الجهاز ما اعترى المجتمع المصرى بوجه عام من سلبيات وظواهر غريبة على مجتمعنا. وبالتمعن والتدقيق فى طبيعة عمل جهاز الشرطة والدور المنوط به، يمكن القول بأن هذا الجهاز الحيوى المهم يتحمل عبء تقصير أجهزة الدولة ومؤسساتها الأخرى، سواء كانت عامة أو خاصة، ومع تعدد المشكلات التى يعانى منها المجتمع المصرى، فلنا أن نتصور العبء الهائل الذى يقع على كاهل قوة الشرطة.
من ناحية أخرى، فإن العشوائية فى البناء وفى التوسع العمرانى تؤدى إلى ازدياد نسبة الجرائم وكثرة البؤر الإجرامية وتجعل مهمة جهاز الشرطة فى بعض المناطق شبه مستحيلة.
ومن ناحية ثالثة، فإن الإجراء المتبع فى معظم دول العالم هو عدم جواز الحصول على شريحة خط تليفون محمول إلا بعد التأكد من هوية الشخص والحصول على نسخة من المستندات والأوراق التى تثبت هوية المستخدم، وبحيث يمكن ملاحقة الشخص إذا ثبت ارتكاب إحدى الجرائم بواسطة خط التليفون المسجل باسمه. أما فى مصر، فقد انتشرت ظاهرة بيع شرائح الهواتف المحمولة غير المسجلة فى شركات المحمول، التى يتم استغلالها فى العمليات الإرهابية وتفجير العبوات المفخخة عن بعد، كما يتم استخدامها فى تهديد رجال القوات المسلحة والشرطة ورجال القضاء والإعلاميين وبعض الشخصيات العامة. وللتدليل على خطورة الظاهرة، يكفى أن نشير إلى تصريح صادر عن الرئيس التنفيذى للجهاز القومى لتنظيم الاتصالات فى العاشر من ديسمبر 2014م بأنه قد تم التعامل على تحديث بيانات 30 مليون خط محمول ما بين خطوط مجهولة الهوية أو غير مكتملة البيانات، موضحاً أنه تم استكمال بيانات 20 مليون خط ووقف الخدمة عن 10 ملايين خط.
كذلك، فإن معظم الدول المستقرة أمنياً تعمد إلى استخدام منظومة متكاملة من كاميرات المراقبة فى الحفاظ على الحالة الأمنية، ولا شك أن وجود كاميرات المراقبة من شأنه أن يسهم فى ضبط الحالة الأمنية وسهولة التعرف على الجناة وملاحقتهم. وتؤدى هذه الكاميرات، فضلاً عن الأجهزة الإلكترونية الأخرى مثل بصمة العين، إلى تيسير مهمة كشف المجرمين وسهولة الحصول على الدليل، فلا يحتاج رجل الشرطة إلى الأساليب البدائية أو اللجوء إلى أسلوب التعذيب للحصول على الدليل. قد يقول قائل بأن الأوضاع الاقتصادية الصعبة التى تمر بها مصر وعدم وجود وفرة مالية تقف عائقاً دون تزويد جميع الطرق والمنشآت بكاميرات المراقبة الأمنية، والرد على ذلك بأن التكلفة المالية الباهظة المترتبة على العمليات الإرهابية وما تسببه من آثار سلبية على السياحة والاقتصاد تستأهل التفكير بجدية فى سبل توفير الموارد المالية اللازمة لتوفير العدد الكافى من كاميرات المراقبة. كذلك، يمكن تعديل تشريعات المبانى، بحيث يمكن إلزام طالب الحصول على ترخيص البناء بأن يزود المبنى بعدد معين من كاميرات المراقبة. كذلك، يمكن إلزام ملاك المحلات التجارية ومحلات المجوهرات بتزويد محلاتهم بكاميرات المراقبة الأمنية. وتجدر الإشارة هنا إلى معظم الدول العربية قد بادرت إلى استصدار تشريع لتنظيم كاميرات المراقبة الأمنية، كما هو الشأن فى القانون الكويتى رقم 61 لسنة 2015 فى شأن تنظيم وتركيب كاميرات وأجهزة المراقبة الأمنية والقانون القطرى رقم 9 لسنة 2011 بتنظيم استخدام كاميرات وأجهزة المراقبة الأمنية والقانون الصادر فى إمارة دبى رقم 10 لسنة 2014 بتعديل بعض أحكام القانون رقم 24 لسنة 2008 بشأن مقدمى الخدمات الأمنية ومستخدميها.
بالإضافة إلى ما سبق، يلاحظ أن ثقافة الكاش هى السائدة فى المجتمع المصرى، الأمر الذى دعا مديرة صندوق النقد الدولى إلى القول بأن حجم المعاملات المصرفية فى المجتمع المصرى لا يتجاوز 10% بأى حال من الأحوال، وهذه الظاهرة تؤدى إلى تعقيد مهمة الشرطة فى الكشف عن الجرائم، وتجعلها مجبرة على اللجوء إلى الوسائل التقليدية للكشف عن الجرائم. بيان ذلك أن اللجوء إلى المعاملات المصرفية بدلاً من الدفع النقدى يجعل من الميسور مراقبة تعاملات الأفراد الاقتصادية والوقوف على مشروعيتها وتحديد مصادرها، وللتدليل على ذلك، يكفى أن نشير إلى أن حادثة اغتيال المطربة «سوزان تميم» قد تم الكشف عنها بواسطة شرطة دبى من خلال شراء السكين المستخدم بواسطة الـ«فيزا كارد».
كذلك، تجدر الإشارة إلى أن بعض الدول الأجنبية عمدت إلى تعديل تشريعاتها الجنائية بما يكفل حماية الشهود والمبلغين، ولا سيما فى الجرائم الخطيرة، الأمر الذى لم يحدث عندنا حتى تاريخه، وذلك على الرغم من تعالى الأصوات المطالبة بضرورة توفير الحماية القانونية للشهود، ورغم مرور ما يقارب السنتين على استشهاد العقيد محمد مبروك.
وفى الختام، نرى أنه من الملائم أن نقول هنا -نقلاً عن الدكتور مصطفى محمود فى كتابه «أيها السادة.. اخلعوا الأقنعة»- بأن التغيير المطلوب لن يتحقق عبر اللجوء إلى العنف ومحاولات نشر الفوضى وهدم مؤسسات الدولة والتشكيك فى وطنية رجال الجيش والشرطة.. وإنما الثورة المطلوبة هى ثورة كل منا على نفسه ليفتح صفحة جديدة يراقب فيها ضميره ويراعى ربه، ثم تأتى بعد ذلك مرحلة التحول الاجتماعى مصداقاً لقول القرآن: (إنَّ اللهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ)، وبمناسبة عيد الشرطة، أود أن أتقدم بالشكر والعرفان لكل رجل شرطة يعرض حياته يومياً للخطر فداءً لمصر.