فى أيام ثورة عام 1919 التى بدأت فى القاهرة يوم 9 مارس تواصلت الثورة فى أنحاء مصر من مدينة إلى مدينة ومن قرية إلى قرية حتى عمت مصر كلها فى أقل من أسبوعين، وتطورت من المظاهرات إلى الإضرابات إلى قطع السكك الحديدية والتلغراف والبريد، وساد الشلل التام حتى اضطرت إنجلترا لضرب المدن والقرى بالطائرات. وبعد بداية الثورة بأيام أرسلت إنجلترا مندوباً سامياً جديداً يُدعى اللورد اللنبى واختارته خصيصاً لظروف الثورة، لأنه رجل حرب وكان القائد العام للجيوش البريطانية فى مصر منذ عام 1917 فى الحرب العالمية الأولى وتولى قيادة جيوش الحلفاء فى فلسطين وسوريا، وتولى ضرب المظاهرات بالرصاص وسقط الآلاف من أهل مصر شهداء بسلاح الجنود الإنجليز.. واندلعت الثورة فى بورسعيد يوم 21 مارس 1919، وسقط من أهلها فى اليوم الأول سبعة من الشهداء، وظلت بورسعيد مثل باقى مدن مصر تدفع من دماء أبنائها الكثير، وغادر اللبنى مصر بعد فشله الذريع عام 1925 فى شهر مايو، وذهب من القاهرة إلى بورسعيد بالقطار ليركب الباخرة، وكان أن حدث بعض الشغب هناك اضطره للذهاب إلى قسم الشرطة وعرف أهل بورسعيد بوجوده فتظاهروا ضده خارج القسم، ويبدو أن أحد الشباب قد كتب اسمه على ورقة وقاموا بحرقها أمام القسم.. وكانت الليلة ليلة عيد شم النسيم.. وفى العام التالى صنع أهل بورسعيد دمية من القماش وصنعوا لها رداء الملابس العسكرية الإنجليزية وكتبوا على صدرها «اللبنى» وحرقوها وسط احتفال صاخب وأيضاً ليلة شم النسيم.. وصارت عادة بورسعيدية أصيلة كل عام، وانتشرت إلى الإسماعيلية أيضاً، وتفنن الأهالى فى صنع الحراق واختلفت مع الوقت الشخصيات، فكانوا يصنعون الدمية على شكل الشخصية الكريهة بالنسبة لهم. وبعد حرب عام 1956 حرقوا مستر إيدن رئيس وزراء بريطانيا، وجى مولييه رئيس وزراء فرنسا، وبن جوريون رئيس الوزراء الإسرائيلى، الشركاء الثلاثة فى الحرب على مصر عام 1956 وبالتحديد على بورسعيد التى تحملت العبء الأعظم فى القتال والمقاومة ضد العدوان بشهادة العالم.. كانت الخطة أن تدخل إسرائيل برياً بقواتها بجوار «الكونتللا» على حدود سيناء فى 29 أكتوبر، وبناء على اتفاقية الجلاء تتدخل إنجلترا لحماية قناة السويس، وبالفعل تم الدفع بالجيش المصرى إلى سيناء فجاءت الطائرات الفرنسية والإنجليزية لإنزال الجنود المظليين فى بورسعيد ليقع الجيش المصرى فى كماشة وحصار يقضى عليه بالكامل.. وتم انسحاب الجيش بسرعة إلى الغرب من سيناء، وبدأت الحرب على بورسعيد منذ يوم 31 أكتوبر ،وتحولت الحرب إلى مقاومة شعبية من أهل بورسعيد والمتطوعين من باقى المدن المصرية ومن أفراد الجيش المصرى والبوليس المصرى الذين نزعوا الملابس الرسمية وتلاحموا مع شعب بورسعيد، وتم القضاء على جنود المظلات الذين هبطوا فى مـطار الجميل وفى منطقة «الرسوة» بالكامل، وشاركت النساء مع الرجال مع الأطفال والصبية فى ملحمة رائعة، ونجح الإنجليز والفرنسيون فى الإنزال فى «الرسوة» مرة أخرى، وتمكن الفرنسيون من بورفؤاد، ثم بدأت الغارات الجوية والبحرية فى ضرب بورسعيد واستمرت الحرب من بيت إلى بيت، ووصل عدد الغارات على بورسعيد إلى ألف غارة جوية غير البحرية، وشكل الفدائيون منظمات سرية لقتل الأفراد من جنود الأعداء، وكان أشهرهم الضابط «مورهاوس» وأهمهم لقرابته للعائلة المالكة الإنجليزية.. وامتنع عمال الموانئ والشحن عن العمل وتعطلت القطع البحرية الإنجليزية والفرنسية، وظلت بورسعيد صامدة حتى صدور الإنذار الروسى يوم 5 نوفمبر.. وتوقف القتال يوم 7 نوفمبر.. واستُشهد فى بورسعيد وحدها أكثر من ألفين من الشهداء، ومن سيناء وباقى مدن القنال حوالى الألفين وخمسائة شهيد.
ودفعت بورسعيد فى عام 1967 وعام 1973 بالمزيد من الهشداء.. ولكن فى الأسبوع الماضى دفعت من جديد بأكثر من أربعين شهيداً فى مظاهرات سلمية ترفض احتلال الوطن من جديد.. ويبدو أن هذا قدركِ يا مدينة الأبطال البواسل الشرفاء.. فأنتِ السد المنيع الذى اعتاد أن يفدى الوطن بأرواح أبنائه ويدافع عن مصر كلها.. فسلام لكِ ولشهدائكِ الأبرار، ولن تذهب دماؤهم هباء، ولابد من يوم قادم يدفع فيه القتلة ثمناً لما اقترفت أيديهم فى حق شبابكِ ورجالكِ الخالدين.