لم تكن ثورة يناير مجرد ثورة على حاكم أو نظام حكم، كما يظن الكثيرون، بل كانت ثورة على ظرف يمكن وصفه بـ«الظرف الانتحارى» الذى انخرط فيه المصريون طيلة ثلاثين عاماً من حكم «مبارك»، عقود ثلاثة تعرضت فيها الأعمدة التى يرتكز عليها هذا المجتمع للنحر والتجريف، تآكلت أعمدة الصحة والتعليم بفعل الإهمال، وعمود السياسة بسبب التجفيف والتصافق ما بين نظام حكم فردى ومعارضة إخوانية مصنوعة، وعمود الاقتصاد بسبب الفساد، واكتملت الخماسية بانهيار منظومة القيم والأخلاق، بعد أن أصبح المال والاستهلاك يتسكعان على رأس أجندة أولويات المصريين فى الحياة. الظرف برمته كان ظرفاً انتحارياً، دفع قطاعاً من المصريين إلى التحرك فى 25 يناير 2011، لإنقاذ المجتمع الذى أصبح على حرف!.
السنوات الست الماضية التى مرت على ثورة يناير 2011، يمكن وصفها بسنوات دفع الثمن، وتقديرى أن أمامنا عاماً آخر، حتى تكتمل السباعية التى شاء الله تعالى أن يجعلها مدى زمنياً لمآسى المصريين، فكل محنة نعيشها تستغرق على وجه التقريب 7 سنوات: «السبع العجاف» بالتعبير القرآنى. لم يفلت أحد على مدار السنوات الماضية من دفع الثمن، مبارك ورجاله دفعوا، الإخوان دفعوا، أنظمة الحكم الانتقالى دفعت، نظام الحكم الحالى يدفع، رجال الأعمال يدفعون، مؤسسات الدولة تدفع، وأخيراً كل مواطن فى هذا البلد يدفع الثمن، وليس أدل على ذلك من المعاناة المعيشية المضنية التى يشتكى منها المصريون على اختلاف مستوياتهم الاقتصادية والاجتماعية. يصح أن يختلف الثمن الذى دفعه ويدفعه كل طرف من هذه الأطراف، كماً ونوعاً، لكن ذلك لا يمنع من أن الكل يدفع. وما تحسبه ثمناً يسيراً يدفعه غيرك، قد يكون عنده كبيراً، والله تعالى له حكمته.
الكل يدفع وهو ساكت!. من أكبر كبير إلى أصغر صغير، لأننا جميعاً شاركنا فى المأساة التى وصلنا إليها، طيلة عصر مبارك، وتحركنا للتخلص منها مع قيام ثورة يناير. كل القوى السياسية التى عبثت داخل المشهد السياسى خلال فترة حكم «مبارك» وساهمت معه فى إفساد حياتنا السياسية، أصبحت اليوم مطاردة من الجميع، والمحظوظ منها تم وضعه فوق «رف السكات»، رجال الأعمال الذين أثروا، بالحق وبالباطل، خلال عصر مبارك، ولم يرضوا بأن يمدوا يد المساعدة إلى الاقتصاد المصرى فى محنته، يتعرضون منذ مدة لعملية تقليم أظافر، والمحظوظ منهم مركون على «رف السكات»، بعد أن أصبحت المشروعات الاستثمارية تتم بمنأى عنهم، ورغم ضمور الحياة السياسية وتراجعها، فإنها تجد نفسها محاصرة هى الأخرى، بين شعب يئن، وقوى مخاصمة لها ألد الخصام، ودول خارجية لا ترضى عن المعادلة السياسية التى تدير بها، ودول إقليمية يحلم أبناء حكامها بتحقيق أحلام سياسية خيالية على حسابها، أما الشعب الذى سكت على فساد واستبداد عصر «مبارك» ورضى به، وشارك قطاع منه فى الفساد واستفاد منه، ودافع عن استمرار مهزلة الخراب، من خلال تبنى فكرة التوريث. هذا الشعب يدفع الآن الثمن معاناة وتعباً وإرهاقاً اقتصادياً غير مسبوق، إلى درجة دفعت البعض إلى التساؤل: كيف يحتمل الشعب كل هذا؟، والإجابة بسيطة، الشعب يحتمل، ولا بد أن يتحمل، لأنه شارك فيما حدث، لذلك عليه أن يدفع وهو ساكت..!.