أبت أن تكون جزءاً من قطيع السمع والطاعة، أصرت على أن تكون نفسها مهما كانت العواقب، موقعها الحساس ومكانتها الدولية لم تثنها عما رأته حقيقة واضحة دون لبس ولا تزييف، ورغم معرفتها أن العواقب لن تكون مرضية ولن تشفع لها نزاهتها ونقاء ضميرها طوال سنوات عملها، فإنها رفضت أن تنساق تحت وطأة الضغوط لما يخالف قناعتها ومستقر يقينها ورضى ضميرها، الأمين التنفيذى للجنة الأمم المتحدة الاقتصادية والاجتماعية لغربى آسيا (الأسكوا) استقالت من منصبها دون تردد غير آسفة عليه بعد أن طالبها الأمين العام للأمم المتحدة، أنطونيو جوتيريش، بسحب تقارير تدين إسرائيل.
ولأنها إنسانة سوية تؤمن بالقيم الإنسانية السامية التى تأسست على قاعدتها منظمة الأمم المتحدة، فهى مؤمنة بأن التمييز ضد أى إنسان على أساس الدين أو اللون أو العرق مرفوض ولا يمكن أن يكون مقبولاً بفعل سلطان القوة، فقول الحق فى وجه سلطان جائر ليس حقاً فحسب وإنما واجب! فضحت «ريما خلف» كواليس الضغوط التى تعرضت لها بجرأة غير مسبوقة فى تاريخ الأمم المتحدة وعرّت من يقف وراءها، والمفاجأة أنها دول مسئولة عن انتهاكات صارخة بحق شعوب المنطقة وحقوق الإنسان تتغنى كل يوم بحقوق الإنسان العربى المهدرة كرامته فى ظل أنظمة عربية فاشية وتوظف سياساتها حسب الأهواء والمصالح، لتكون هى نفسها تلك الدول التى تمارس هذه الانتهاكات وتضغط عليها لتكميم صوت الحق، وللأسف لم يكن الأمين العام للأمم المتحدة بمنأى عن الشبهة وتورطه بالفضيحة إرضاء لأمريكا وإسرائيل، لذا جاء خطاب استقالتها حاسماً لا ارتباك فيه ينم عن شخصية قلّ أن يجود بها الزمان، شخصية امرأة تحدت عالم الرجال وغطرسة القوة متسلحة بضمير حى لا يعرف للخوف طريقاً.
قالت فى خطاب استقالتها: «استقلت لأننى أرى من واجبى ألا أكتم شهادة حق عن جريمة ماثلة وأصر على كل استنتاجات التقرير، وأجد نفسى غير قابلة للضغوط التى مورست علىّ، فالتقرير صدر ولا يمكن سحبه»! فمن سحب التقرير، على حد تعبير السيدة ريما، «كلب» لا يؤثر فى قيمته، فالتقرير سحب من الموقع الإلكترونى «للأسكوا» فقط، لأنه يتهم إسرائيل بتطبيق العنصرية على الشعب الفلسطينى بأكمله، فمن هاجم التقرير لم يمس محتواه بأى ملاحظة، ولأن واجبها إظهار الحقيقة وليس كتمانها كما يفعل أقوى الرجال رضوخاً لضغوطات ربما أقل مما تعرضت له السيدة ريما المقاتلة الشرسة، سارت فى طريق الأشواك حينما تحدت الإرادة الأممية وإرادة الولايات المتحدة وإسرائيل، وفضحت الممارسات الإسرائيلية التى تقوم بها فى الأراضى الفلسطينية المحتلة، معلنة للعالم بأن نظام الأبرتهايد ما زال قائماً فى القرن الواحد والعشرين وتمارسه إسرائيل، فالتقرير فى مضمونه والذى نشر يوم 15 مارس يتهم إسرائيل صراحة بفرض نظام الأبرتهايد ضد الشعب الفلسطينى دون التباس.
لم يكن منة أو هبة أن يقلدها الرئيس الفلسطينى محمود عباس أرفع وسام فلسطينى تقديراً لشجاعتها ووقوفها إلى جانب الحق قبل أن يكون إلى جانب شعب يناضل من أجل قضيته العادلة، فهذا أقل ما تستحقه فى زمن تدفن فيه الرؤوس وتزيف الحقائق دون وازع من ضمير ليس من أشخاص يمثلون مناصب رفيعة فى مؤسسات دولية فقط، ولكن من أنظمة وحكومات يضر إعلان الحقيقة بمصالحها ويمس مكانتها، فمواجهة أكبر دولة فى العالم ليس سهلاً وعواقبها وخيمة، وإذا كانت إسرائيل قد هاجمت الرئيس عباس على منحه وساماً للسيدة «خلف» واتهمته بدعم جهات متطرفة، معتبرة التقرير مفبركاً وكاذباً، فهذا شأن دأبت عليه إسرائيل «أن تقلب الحق إلى باطل» طالما يمس سياساتها، ولها تاريخ طويل فى تزييف الحقائق؛ فهى من اعتبرت أى تقرير أو لجنة تقصى حقائق دولية منحازاً وغير شفاف، لأنها فوق القانون وهناك من يدعمها ويقف خلفها، وهناك العديد من التقارير الدولية التى تدين ممارساتها الوحشية بحق الشعب الفلسطينى لم تستطع الوصول إلى قنواتها الرسمية بسبب الأيدى النافذة التى تعطلها، مثل «لجنة جولدستون» التى حققت فى الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة عام 2008، ولجنة التحقيق فى مجزرة أسطول الحرية، ولجنة التحقيق الدولية التى شكلها مجلس الأمن فى مارس عام 2012 بشأن المستوطنات الإسرائيلية وتداعياتها على الحقوق المدنية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية للشعب الفلسطينى، فقد سارعت إسرائيل إلى إدانة المجلس واتهمته بالنفاق والانحياز وبذلت جهوداً محمومة لمنع المجلس العالمى لحقوق الإنسان من إدانة سياسة الاستيطان، واعتبرت اللجنة منحازة وغير موضوعية حتى قبل أن تتوصل إلى نتائج نهائية فى تحقيقاتها، بل اعتبرت المجلس بغالبيته معادياً لإسرائيل ومنافقاً ويجب أن يخجل من نفسه!
تعودت إسرائيل على تزييف الوعى وتوظيف ممارساتها العدائية لخدمة أهدافها، وفى المقابل لم يكن هناك صوت عربى يتحدى هذا العداء ويكشف الحقائق بدلاً من الهرولة لكسب الرضا السامى، فكان صوت «ريما خلف» منفرداً من غرد خارج السرب متحدية الابتزاز والضغوط لتفضح بتقاريرها الشجاعة ما دأبت إسرائيل على طمسه وما عجزت عن فضحه دول لها وزنها ومكانتها لو أرادت.