قضاة مصر لهم مقامهم، والقضاء المصرى له حيثيته التى لا يختلف عليها أحد، لكننى كما ذكرت لك أمس الأول لا أتوقع منهم ردة فعل مؤثرة على موافقة مجلس النواب ثم تصديق الرئيس على تعديل قانون السلطة القضائية، وقد بانت علامات ذلك وأماراته فى تلك التصريحات التى جاءت على لسان قضاة كبار، أكدوا فيها عدم اعتراضهم على التعديل وقالوا إنه جعل اختيار رؤساء الهيئات القضائية أشبه بنظام اختيار النائب العام، وأشار آخرون إلى أنهم ملتزمون بالقانون ما دام رئيس الجمهورية قد صدق عليه. لا ينفى ذلك بالطبع وجود أصوات كثيرة معارضة، وجمعيات عمومية للأندية فى طريقها للانعقاد، لكن المؤشرات تؤكد أن «شوكة الاعتراض» ليست بالقوة التى تساعدها على الصمود أو تغيير الواقع على الأرض، ربما تعلو الأصوات والاحتجاجات لبعض الوقت، لكنها مرشحة للخفوت والتراجع بعد حين.
طبعاً الأسباب التى تكمن وراء ذلك عديدة، من بينها وجود انقسام فى اتجاهات التعامل مع الأزمة، وليس بمقدورى أن أقرر هل مرد هذا الانقسام اختلاف فى وجهات النظر، أم أن السلطة التنفيذية فى مصر نجحت فى إقناع فريق من القضاة بقرارها، فأصبحوا مدافعين عنه، مقابل المعارضين له. السبب الثانى يتعلق بطبيعة هذا النوع من القرارات، فبقدر ما يكون المقصود بها استبعاد شخصيات معينة، بقدر ما تخدم مصالح شخصيات أخرى طامحة، وتنازع المصالح لا بد أن يؤدى إلى الاختلاف، والاختلاف هنا عادةً ما يكون «رحمة» للسلطة المصرة على إنفاذ قرارها، أما السبب الثالث فيتعلق بعدم وجود دعم شعبى لموقف القضاة، ليس لأن الشعب لا يلتفت إلى خطورة القرار الأخير على استقلالية القضاء، ولكن لأنه ينتظر ما هو أهم، وفى تقديرى أن الكثير من القضاة المعترضين على «التعديل» ينتظرون هم الآخرون، وقد يعكس سكوتهم المؤقت على ما يحدث نوعاً من الأداء «التكتيكى» انتظاراً لما هو آتٍ. وما هو آتٍ معلوم بالضرورة للجميع، إنه موضوع «تيران وصنافير». الكل الآن يترقب الجلسة التى سيناقش فيها مجلس النواب اتفاقية ترسيم الحدود مع المملكة العربية السعودية، وبناء على القرار الذى سيتخذه المجلس ستتحدد مواقف كثيرة.
النصيحة الواجبة للسلطة ونحن بصدد تحليل أسباب عدم وجود رد فعل قوى من جانب القضاة على تعديل «السلطة القضائية» تلخصها عبارة «من الضرورى توخى الحذر». وكل ما أخشاه فى هذا السياق أن يؤدى تمرير التعديل بأقل منسوب من الغضب من جانب القضاة إلى إغراء السلطة بتمرير اتفاقية «تيران وصنافير» بالطريقة نفسها. وأقصد بالسلطة هنا السلطة التشريعية ممثلة فى مجلس النواب، أما السلطة التنفيذية فموقفها محدد بشكل مسبق من الاتفاقية. على السلطة بجناحيها ألا تراهن بسهولة على رد فعل «طرى» من جانب الشعب، حال منح المملكة الجزيرتين المصريتين. لا أريد أن أكرر كلاماً سبق أن ذكرته عن حساسية موضوع الأرض بالنسبة للمصريين، لكننى أؤكد هذه المرة أن هذا الشعب الذى صبر على المرار الاقتصادى الذى تسقيه له السلطة، ووقف وحده متحملاً فاتورة ما تطلق عليه الحكومة «الإصلاح الاقتصادى»، بإمكانه أن يأتى السلطة من حيث لا تحتسب. وإذا كانت السلطة دائبة التحذير للشعب من أى تحرك قد يتسبب -لا سمح الله- فى تدمير الأوضاع، فعليها هى الأخرى أن تحذر من دفع الشعب إلى ما ليس منه بد!