هى مجرد 6 أحرف فى ترتيبها الأول: «الحداد» تعكس انكساراً وقبولاً للهزيمة والواقع المرير والاستسلام غير المقبول على الإطلاق..! وفى ترتيبها الآخر: «التحدى» تؤكد ثقة الدولة فى أجهزتها وقدرتها على القصاص والثأر من كل من يحاول المساس بمن تحمل ملامحه سمرة النيل، بصرف النظر عن ديانته وعقيدته، وهو ما أقدم عليه السيسى فى أول رد فعل على حادث أوتوبيس المنيا الذى أدمى قلوبنا جميعاً.
ما جرى فى صعيد مصر ليلة بداية شهر رمضان الكريم أمر لا تداويه تعبيرات «الإدانة أو الاستنكار» ولا يلملم جراحه «إعلان الحداد العام» ولا يكفى الزمن ليُسقطه بالتقادم أو أن يُفلت المتورط فيه من العقاب، فتلك الصدور الخضراء التى اخترقتها رصاصات الغدر لتستقر فى قلوب ملأها حب الوطن قد «شرخت» قلوبنا جميعاً.. فى الوقت الذى ظل فيه «خونة» يرقصون على أسفلت مغطى بدماء شهداء أبرياء، فما جرى كان كافياً تماماً لننتبه إلى أن الإرهاب لن يكف عن أعمال القتل بدم بارد، وأن «بؤره السوداء» أصبحت تسكن على حدودنا، سواء الغربية «ليبيا» أو الجنوبية «السودان» أو أراضينا الشرقية «سيناء»، التى أصبحت تهدد الأمن القومى المصرى، بعد أن نجحت إلى حد ما فى التسلل إلى داخل حدودنا وتضاعفت مخاطرها، خاصة أن هناك معسكرات تدريبية أقامتها الجماعات الإرهابية وأصبحت معروفة ومحددة لدى أجهزة الأمن القومى!
وإذا كنا فى كل مرة يقع فيها حادث إرهابى يستهدف تحديداً إخوة لنا مسيحيين قد اعتدنا على ذلك المشهد المتكرر الكريه فى سيناريو رتيب وممل: نُفاجأ.. ننزعج.. نغضب.. ننفعل.. نثور.. نطالب بالحسم.. وبالمواجهة الجادة لكل من يسعى لإحراق الوطن.. وبالقصاص للضحايا ومعاقبة الجانى دون النظر عمن يكون ثم فجأة يسرى فى شراييننا مخدر لتنساب كلمات اعتدناها من شفاه بلاستيكية يتحلق أصحابها مائدة مستديرة يعلوها لافتة ساذجة «الوحدة الوطنية» فى إحدى قاعات فندق خمسة نجوم ويتبارى أصحابها فى ترديد عبارات سئمنا سماعها على غرار «ندين ونستنكر هذه الجريمة التى تهدد نسيج الأمة الواحد».. غير أننا هذه المرة ومع كامل يقيننا بأنه ليس هناك بلد فى العالم يمكنه القضاء نهائياً على الإرهاب الأسود خالفنا ما اعتدناه وخرج نسور الجو المصريون ليدكوا 6 تمركزات للعناصر الإرهابية بمدينة «درنة الليبية» ليدمروها بشكل كامل إلى جانب المركز الرئيسى لمجلس «شورى المجاهدين» هناك.. وعلى الأرض انقضت مجموعة من «الفرقة 999» الشهيرة لتصفى أكثر من 150 داعشياً وتأسر نحو 55 آخرين ليعلن الرئيس السيسى بعدها: «أن مصر لن تتردد أبداً فى ضرب معسكرات تدريب الإرهابيين فى أى مكان خارج مصر، ومن يقترب من أمننا سنتصدى له كما ينبغى..».
واقع الأمر يؤكد أن اختيار توقيت الحادث أن يكون ليلة غرة شهر رمضان، ليس على سبيل الصدفة، وإنما كل هذا يجرى طبقاً لخطة محكمة، فالغرض منها أن يؤدى ذلك إلى إحداث ضجة خارجية، لتكون العملية مؤلمة للدولة والأمن فى مصر إلى جانب أن محاولات الإرهابيين اليائسة لتفكيك الدولة وإسقاطها لا تقتصر فقط على استهداف الإخوة المسيحيين برصاص غادر، إذ إن هناك «شيوخاً للفتنة» يطلقون فتاوى أشد فتكاً من ذلك الرصاص وقد حان الوقت بالفعل لإسكاتهم.
وإذا كان الرئيس -فى بيانه للأمة ليلة هذا الحادث الإرهابى- قد وجه حديثه إلى الرئيس الأمريكى ترامب: «أقول له أثق فى كلامك وقدرتك على أن رؤيتك فى العالم ستكون فى مواجهة الإرهاب وأثق أنك قادر على ذلك بالتعاون مع الدول المحبة للسلام والأمان والاستقرار»، فإن هذا كان على مستوى مواجهة الإرهاب عالمياً، أما حوادث الإرهاب الغاشمة التى أصبحت ظاهرة متكررة تستهدف المسيحيين المصريين، وتسعى لشق الصف وإشعال فتنة لضرب أمن واستقرار الوطن فى الداخل، إنما تتطلب وقفة جادة واستراتيجية أمنية جديدة تستطيع أن تتعامل مع مستجدات الفكر المتطرف والتنظيمات الإرهابية التى تحاول أن تسرى فى جسد المجتمع، وربما يكون الإسراع فى تشكيل المجلس الأعلى لمكافحة الإرهاب والتطرف -الذى يبدو أن الدولة قد اكتفت بإعلان قيامه دون أى إجراء لتشكيله وتفعيل دوره- فى مقدمة هذه الاستراتيجية المطلوب تحديدها دون أى تباطؤ، وبخاصة أنه لم يعد هناك أى مجال للإدانات والشجب والاستنكار، وعلى الدولة ككل قيادة وحكومة وشعباً أن يتكاتفوا لمواجهة موجات الإرهاب والحيلولة دون الدخول بنا إلى نفق مظلم وصراعات أشد خطورة من ذلك الإرهاب الذى نواجهه الآن، والذى يحاول إثارة فزع المجتمع من أن تلك الجرائم المتكررة تنبع من «معين الطائفية» وأن نيران تلك الفتنة البغيضة قد بدأت فى الاشتعال، وهو أمر تنفيه سوابق تعايش المواطنين ليس فقط على مستوى التاريخ البعيد بل على مستوى الأحداث القريبة، إذ إنه خلال الفوضى الأمنية التى عشناها على مدى نحو الشهر فى أحداث يناير 2011 لم يكن هناك رجل شرطة واحد يقف لحراسة كنيسة أو مسجد، ومع ذلك لم تمس أى من دور العبادة، وربما يكون ذلك هو ما أثار غضب هؤلاء الإرهابيين الذين حددوا «إشعال الفتنة الطائفية» هدفاً لهم لإسقاط الدولة وإحراق الوطن.. غير أن تلك الأرض السمراء التى اختارت أن يضم رمزها ثلاثة ألوان، الأحمر والأبيض والأسود، ويتصدره نسر صلاح الدين، ستظل كما هى صامدة تضم مصريين مسالمين هدفهم الخير وتحكمهم الفضيلة ويحيطهم الحق بصرف النظر عن الدين الذى يؤمنون به.. ولك يا مصر السلامة.