فى البداية ينبغى أن يعرف القارئ أن العنوان لا يحمل سخرية من أى نوع، بل هو حقيقة تاريخية، ربما لم تحظَ بالاهتمام الكافى، لذلك لم يعرفها الناس.
نعم.. لم تكن حملة «صبَّح على مصر بجنيه» هى حملة الاكتتاب الشعبى الأولى فى تاريخ تلك البلاد، فقد سبقتها حملة أكبر وأكثر تأثيراً، وإن لم تؤرخ بالاهتمام الذى تستحقه!
القصة أنه حين طرق التتار أبواب البلاد، وأصبح خطر التتار يهدد مصر، بعد أن تمكنوا من الاستيلاء على جميع الإمارات والدول والأراضى الإسلامية، حتى وصلت سلطتهم إلى غزة، ولم يبقَ بينهم وبين مصر إلا معركة الحسم، بدأ الملك المظفر قطز بالتحضير لمواجهتهم، فعفا عن المماليك البحرية الذين فروا إلى الشام بعد مقتل زعيمهم أقطاى، وكانت هذه الخطوة أبرز قرار سياسى اتخذه فى ذلك الوقت، فقوات المماليك المعزّية التى يقودها لا تكفى لحرب التتار، وكانت المماليك البحرية قوة عظيمة وقوية، ولها خبرة واسعة فى الحروب.
ثم كان فى مواجهة «قطز» مشكلة أكثر تعقيداً، فالأزمة الاقتصادية فى البلاد قد تفاقمت، ولا يوجد فى بيت المال ما يكفى لتجهيز الجيش المتجه لمواجهة التتار وإعداد التموين اللازم له، وإصلاح الجسور والقلاع والحصون، فقام «قطز» بدعوة مجلسه الاستشارى، ودعا إليه سلطان العلماء فى ذلك الوقت العز بن عبدالسلام!
كان «قطز» يرغب فى أن يفرض ضرائب على المصريين لدعم الجيش، ولكن القرار كان يحتاج إلى فتوى شرعية، لأن المسلمين فى دولة الإسلام لا يدفعون إلا الزكاة!
وهنا أفتى العز بن عبدالسلام فتواه الشهيرة، فقال: «إذا طرق العدو بلاد الإسلام، وجب على العالم كله قتالهم، وجاز لكم أن تأخذوا من الرعية ما تستعينون به على جهادكم، بشرط ألا يبقى فى بيت المال شىء، وأن تبيعوا ما لكم من الحوائص -وهى حزام الرجل وحزام الدابة- المذَهَّبة والآلات النفيسة، ويقتصر كل الجند على مركوبه وسلاحه، ويتساووا هم والعامة، وأما أخذ الأموال من العامة، مع بقايا فى أيدى الجند من الأموال والآلات الفاخرة فلا»!
إنها فصل القول فى كل زمان ومكان، ومربط الفرس التى تفصل بين الحكام والرعية فى كل الأزمان!.. فقد بيَّن العز بن عبدالسلام أنه لا يجوز فرض ضرائب إلا بعد أن يتساوى الوزراء والأمراء مع العامة فى الممتلكات، ويجهز الجيش بأموال الأمراء والوزراء، فإن لم تكفِ هذه الأموال جاز هنا فرض الضرائب على الشعب بالقدر الذى يكفى لتجهيز الجيش.
وقد قبِل سيف الدين قطز الفتوى، وبدأ بنفسه وباع كل ما يملك، وأمر الوزراء والأمراء أن يفعلوا ذلك، فانصاع الجميع وامتثلوا أمره، فقد أحضر الأمراء كافة ما يملكون من مال وحلى نسائهم، ولكن لم تكفِ هذه الأموال فى تغطية نفقة الجيش، فقرر «قطز» وقتها إقرار ضريبة دينار واحد على كل مواطن من أهل مصر بالكامل، الأمر الذى مكّنه من استكمال تجهيز جيشه الذى خرج به للتتار.. وهزمهم!
لقد كان المصريون أصحاب الفضل فى دحر التتار بجيشهم، وبأموالهم أيضاًً!
وللحديث بقية.. ما دام فى العمر بقية.