الولد سر أبيه.. كذلك يقول المثل العربى، وهى مقالة تنطبق أكثر ما تنطبق على معاوية، أبوه: أبوسفيان بن حرب كان عقلية تجارية من طراز رفيع، وهو واحد من كبار تجار مكة، وويل للعالم حين يحترف التاجر السياسة. كان أبوسفيان حاضراً فى مشهد فتح مكة، وليس بمقدورى أن أحسم من الذى وقف وراء الوصية التى أوصى بها العباس بن عبدالمطلب ابن أخيه محمداً، صلى الله عليه وسلم، حين قال عند الفتح: «من دخل داره فهو آمن.. ومن دخل الكعبة فهو آمن»، فقال له «عبدالمطلب»: «إن أبا سفيان سيد فى قومه فأعطه شيئاً» فأردف النبى: ومن دخل دار أبوسفيان فهو آمن». هل فعلها العباس تطوعاً أم بوحى من أبى سفيان؟. لا نستطيع أن نحسم هذه المسألة. يقال إن معاوية أسلم قبل الفتح، وهو قول يحتمل الشك لأنه كان تابعاً لأبيه، والأرجح أن إسلامه تأخر حتى دخل كبير بنى أمية فى الدين الجديد. ويوم أن ولى عمر إمارة الشام لـ«معاوية» نصحه أبوه قائلاً: «يا بنى إن هؤلاء الرهط من المهاجرين سبقونا وتأخرنا، فرفعهم سبقهم وقصر بنا تأخرنا، فصرنا أتباعاً وصاروا قادة، وقد قلدوك جسيماً من أمرهم، فلا تخالفن أمرهم، فإنك تجرى لأمد لم تبلغه، ولو بلغته لتنفست فيه».
قواعد عديدة التزم بها «معاوية» حتى يبلغ مرامه ويتمكن من السيطرة الكاملة على الحكم، سنناقش منها ثلاثاً. القاعدة الأولى: «إعلاء المصلحة على العداوات التقليدية». فلم يكن معاوية ليتردد فى أن يطلب المساندة من عدو أو منافس تقليدى له فى سبيل تحقيق مصالحه. فعل ذلك مع الحسن بن على، حين هم الخوارج بقتاله وإسقاط الملك الأموى، فأرسل إليه يطلب مساندته والانضمام إليه فى قتالهم، فرد عليه «الحسن» قائلاً: «لو آثرت أن أقاتل أحداً من أهل القبلة لبدأت بقتالك، فإنى تركتك لصلاح الأمة وحقن دمائها». القاعدة الثانية هى قاعدة «ضرب الفرق والجماعات ببعضها البعض» أو بالتعبير الحديث «مبدأ فرق تسد»، ففى سياق مواجهته للخوارج أقدم معاوية على استخدام أهل الكوفة -بالضغط والإكراه- كعصا لتأديب فئة الخوارج الثائرة ضده، وهى ذات الحيلة التى استخدمها فيما بعد يزيد بن معاوية فى واقعة «الحِرّة»، حين ثار عليه الأنصار وخلعوا واليه على المدينة، فما كان منه إلا أن سمح للجيش الذى تولى مهمة تأديب الأنصار باستباحة المدينة ثلاثة أيام متتالية، فى مشهد تاريخى غير مسبوق، كان ضحيته أنصار رسول الله صلى الله عليه وسلم. فأمام السلطة يهون كل شىء. ويبدو أن ذلك واحد من أهم قوانين حكم «السلسال الأموى».
أما القاعدة الثالثة التى يصح أن نتوقف أمامها فى طريقة حكم معاوية، فتلخصها عبارة: «ضع المصيبة على لسان غيرك». تلك القاعدة طبقها معاوية حين أراد توريث الخلافة لولده يزيد، فلم يرد أن تأتى هذه الدعوة على لسانه، بل قام بعملية تنسيق وترتيب مع عدد من رجال قصره، ليطرحوا ذلك أمام الوفود التى تأتيه، بحيث لا يستطيع أحدهم أن يرفض ذلك، وهو واقع تحت ضغط الوجود فى قصر الحكم، وفى حضور الخليفة، ووسط مجموعة ممن يؤثرون السلامة، ويميلون إلى قراءة ما فى أعين الخليفة من رغبات، ثم يتولون التصديق عليها بالكلام.