فيما أعود إلى موبايل ألقيته جانباً لأن استعماله مزعج بتعقيداته، باحثاً عن رقم سقط من الجديد، برزت أمامى رسالة من صديق تقول «صديقنا المشترك صادق جلال العظم رحل وهو يعانى من مرض خطير فى ألمانيا فى الأحد 11 ديسمبر. هذا ما أعلنه ابناه عمرو وإيفان»، ولم أنم ليلتين مستشعراً خسارة فادحة ليس لى شخصياً إنما للفكر والعقل والحرية والعلمانية. وتذكرت أننى فى عام 1988 دُعيت فى معرض الكتاب بدمشق كى أترأس ندوة يتحدث فيها عدة مثقفين سوريين. وعلى المنصة تأملت أسماء المدعوين للحديث ومنهم اسم لمع فى سماء العقل العربى والإسلامى، ولمع معه اسم الاب القائد المناضل الذى قاد جيش مقاتلى الشام ضد المحتلين الفرنسيين. واعتبره أهل الشام وربما كثير من العرب واحداً من أبطال التحرير. ولمع فى خاطرى بيتان من الشعر القديم اندفعت لاستدعيه عبرهما، فالشاعر الجاهلى يتحدث باسم شاب يقود قبيلة بنى عامر ميراثاً عن أبيه فقال:
«فإنى وإن كنت ابن سيد عامر/ وفارسها المشهور فى كل موكب
فما سودتنى عامر عن ورائه/ أبى الله أن أسمو بأم أو أب
ولكننى أحمى حماها وأتقى أذاها/ وأرمى من رماها بمنكبى».
غيرت ترتيبه لآتى به أولاً وقلت: سأدعو مفكراً لعلكم تعرفون اسمه من بيتين من الشعر.. وقبل أن أكملهما صاح أحد الجالسين دون أن يقف، تستراً، هذا أستاذنا صادق جلال العظم. وضجت القاعة وقوفاً بتصفيق حاد، وقد نسوا حرصهم بسبب وجود ابنة الرئيس حافظ الأسد العقيد المظلية، التى أشاع حضورها موجة من كهرباء خائفة، المهم صعد صادق جلال العظم وسط التصفيق إلى المنصة وتحدث عن «الفلسفة والعقل». وبعدها قلت له هامساً «تلميحاتك ضد الديكتاتورية ستغضب النظام الغاضب أصلاً».. فقال هم أغبياء ولا يلتفتون إلا إلى الصريح من القول.
وفى مكالمة تليفونية من الأردن تحدث معى فى أثناء ثورة يناير.. لم يكن متحمساً بالقدر الكافى وقال «احذروا ثورة تخرج من الجامع»، و«احذروا من مواجهة للاستبداد تأتى باستبداد ثيوقراطى بديل». وأتت الثورة السورية فحدثنى من ألمانيا مريضاً: «الثورة ضرورة لكننى ألمح بدايات انفلات يفتت سوريا على يدى داعش والقاعدة».. وصمت قليلاً ثم قال: «داعش والقاعدة أمرهما سهل ولكن المصيبة تأتى ممن يأتون بمطامعهم وأموالهم وأسلحتهم ليحققوا هذه المطامع عبر أنهار من دماء سورية».
والآن، بعد هذه المقدمة، هل تأذنون بمعلومات عن صديقى صادق.
وُلد 1934 لأسرة تزهو ببطولة الأب. درس الفلسفة فى الجامعة الأمريكية ببيروت وأكمل دراسته فى جامعة يال الأمريكية وعمل فى جامعة برنستون، وقام بالتدريس فى جامعات دمشق وبيروت والأردن وأمريكا وألمانيا.
وعندما أبلغنى قبل اندلاع الثورة فى سوريا أنه قرر فراقاً وافتراقاً مع الوضع فى دمشق، طالبته بالتريث فقال «ضقت بهم وضاقوا بى». ضاقوا به رغم مهابته الفكرية والأسرية وربما بسببها، فالبعث السورى لم يكن ليسمح لأحد بأن يرفع رأسه فى مواجهته، وما كان لـ«صادق» إلا أن يرفع رأسه فيتبدى شامخاً أمام الجميع.
وأذكر أننى فى بداية صداقتى معه قال لى الدبلوماسى المصرى الذى استشهد فى ذات يوم وصوله منقولاً إلى بغداد «أريد أن أتعرف على أوضاع السنة ومواقفهم من حكم البعث»، فقلت «سأدعوك على عشاء مع صادق جلال العظم». فقال فى انبهار «هذا مستحيل فهو لا يقبل الجلوس مع من لا يعرف فما بالك بدبلوماسى مصرى؟». وفى اليوم التالى جلسنا للعشاء ثلاثتنا فى واحد من أفخم مطاعم دمشق.. المستشار بالسفارة «هشام» لا تفارقه الكاميرا فهو يريد أن يصور كل شىء. أعجب به «صادق» وقال «إلا أنا». فقلت «هل تخشى منهم؟»، ورد «وهل تتصور أنهم لم يصورونا ألف صورة؟». وهنا سأله «هشام»: «ما انتقاداتك للحكم فى سوريا؟»، ابتسم وقال فى أذنى «ألم تلاحظ أنك اخترت مائدة فما إن حضرت أنا غيروا المائدة زاعمين احترامى.. لقد نقلونا إلى حيث ينصتون». لكنه لم يخَف وبدأ فى انتقاد النظام وإن كان قد حذرنا من أن نعتبر أن مهمة النقد التجريح فى الخصم.. وحلقت فى ذهنى عبارة رائعة سبق أن قرأتها فى كتابه «النقد الذاتى بعد الهزيمة» الصادر بعد هزيمة 1967 بعام.. وعدت إليها وأنا أكتب الآن لأقرأ: «أرجو أن يكون التفكير العربى الواعى قد وصل مرحلة تجاوز فيها اعتبار النقد مجرد عملية تجريح، أو تعداد لعيوب وأخطاء ونقائص لا تنتهى، إنما أتمنى أن يدرك عقلنا أن النقد هو تحليل دقيق بغية تحديد مواطن الضعف وأسباب العجز والمؤثرات المؤدية إلى وجود العيوب والنقائص». وأذكر أنه فى اليوم التالى للعشاء تمشينا معاً فى شوارع دمشق ولفت نظرى إلى مسألة مهمة جداً، فقال: «يا أخى.. حكامنا قد يتقبلون على مضض انتقاداتك لكنهم أبداً لن يغفروا لك تحليلك لأسباب الخطأ أو الهزيمة». واكتشفت أنه على حق.
ولكنى أود أن أؤكد أن «صادق» كان شجاعاً بلا حدود فى كتبه وكتاباته.. فلنتابع بعضاً من كتاباته التى تمتزج فيها الفلسفة بالعقلانية بالمعرفة الواعية بأسباب فساد الحكم والأحكام.. ولو تأملت كل كلمة لاكتشفت كيف حوّل الفكر الفلسفى إلى سلاح يحارب به الطغيان.. فلنحاول معاً.