لم أتوقع فى حياتى أن أرى الشمس والقمر معاً فى لحظة واحدة إلا أن ذلك حدث بالفعل. فمنذ أيام شاهدتهما تمسكان أيديهما معاً بقوة وتتهاديان أمام عينى وكان المشهد رائعاً وممتعاً ولافتاً للأنظار. وعلى الفور أحسست أننى أمام إلهة الجمال المصرى إيزيس وبرفقتها فينوس إلهة الجمال عند الرومان، وتذكرت قصيدة الشاعر السعودى مبارك بن رادعة (تهادت الشمس) وتعجبت من أن تنطبق على ما أرى فى قاهرة المعز كلمات كُتبت فى بلاد الحجاز بينما سطعت هذه الشمس وتهادت مقبلة من بلاد الشام.
أحدثكم الْيَوْمَ أصدقائى عن «لين ولارا».. هما شقيقتان صغيرتان لم تصل الكبرى للثامنة من عمرها إلا أن التجربة التى تعيشها أعطتها خبرة سنوات وسنوات. فالجمال الذى منحهما الله إياه لم يُخْفِ قلقاً وتوتراً ونظرات تريد أن تلتهم كل ما يصادفها فى الطريق وتتمنى ألا تغفو أو تخلد للنوم ولو للحظات حتى لا يفوتها من تلك الأيام مشهد أو أى لحظة دون لقاء أو ضحكة أو لهو أو حديث. ويبدو أن إحساسها باحتمال فقْد ما تراه فتَح شهيتها لكل شىء وأى شىء. ولاحظت أن الجميلتين تنطقان أسميهما بلكنة شامية جميلة. ولأننى أعشق البحث عن معانى الكلمات والأسماء فقد وجدت أن معنى «لين» فى المعجم العربى عكس الخشونة وكذلك هى النخلة الصغيرة، وقد وردت فى القرآن فى سورة الحشر الآية ٥ {مَا قَطَعْتُم مِّن لِّينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيُخْزِيَ الْفَاسِقِينَ). ويقال أيضاً عن اسم «لين» إنه إنجليزى مأخوذ من Lena أو Lyne وتعنى الشلال.
أما الصغيرة «لارا» فاسمها علم مؤنث لاتينى Lara وبالإنجليزية معناه المضيئة أو المشرقة أو المشهورة ويقال إنه من أصل روسى، ويستخدم اسم لارا فى تقدير الأشخاص وإعلاء مكانتهم بين الناس.
فأى جمال تحمله هاتان الفتاتان فى الملامح والمعانى.
الغريب أن هاتين الفتاتين كانت لديهما أسئلة وتعليقات على كل شىء من مقومات الحياة الأساسية فهما سعيدتان بأن المنزل به كهرباء لا تنقطع ويمكنهما مشاهدة برامجهما المفضلة دون توقف واستخدام المصعد فى أى وقت.
كما أن الحلوى والثياب الجميلة تملأ واجهات المحلات المضاءة طوال الْيَوْمَ. كما أنه لا يوجد بالقاهرة (المحروسة بإذن الله) أصوات انفجارات مرعبة كتلك التى تدوى فى مدينتهم ليل نهار كما تقول «لين».
أما ما أثار انتباهى أكثر وأكثر فهو إعجابهما بكلمات أغنية عربية الأصل كتبها كاظم الساهر ولحنها لمجموعة من الأطفال يشكلون فريقه فى أحد برامج المسابقات الغنائية، ومع تلك الأغنية ستقرأون أصدقائى قصة هذا الجيل وستعرفون من هو الجانى الذى أصابهم بالذعر وحرمهم من تلك المشاعر الخضراء التى أوشكت أن تصاب بالعطب، تقول الكلمات (ما لى خلق أحب وافترق نار العشق ناره تحرق حرق). وبعد هذه البداية الرومانسية للأغنية تظهر حقيقة الوطن العربى وأحواله الغامضة والحزينة عندما يبدأ الصغار فى حكى القصة أو المؤامرة التى تسعى القوى العالمية لتنفيذها فيقولون (إحنا فى وطن كله محن، كله وجع، كله فتن) فالصغار عرفوا معنى الوجع والمحن والفتن عندما تَرَكُوا منزلهم فى مدينة حمص السورية وجاءوا للقاهرة. «لين» تبحث فى القاهرة عن حقيبة للمدرسة وبرغم عشقها للون الورد فإنها اختارت واحدة بلون قاتم وعندما سألتها عن السبب قالت إن الماء كثيرا ما يتوقف ضخه بسبب الدمار والكهرباء أيضاً وتتوقف آلة تنظيف الملابس فى المنازل فكيف يمكن أن تقتنى حقيبة وردية سرعان ما ستحتاج لنظافة لن تجد أمها وسيلة لها.
والصغيرة «لارا» سألت بائع الحلوى بشغف وسعادة كيف يعطيها كل ما اختارت من مأكولات مقابل هذه الجنيهات القليلة بينما تدفع المئات من الليرات السورية ثمناً لقطعة حلوى واحدة فى مدرستها ولعل تعليقها الذى همست به هو الترجمة الحقيقية للفتن التى أطاحت بأحلام الأطفال العرب، فقد قالت «لارا»: (أنتم سعداء.. نقودكم تساوى الكثير). أى تعاسة تعيشون أيها العرب والطفلة ذات السنوات الست تلخص لكم انهيار الاقتصاد العربى من سعر قطعة حلوى.
ولكى نكمل أغنية كاظم الساهر، التى تقول (واللى يحكموا فى هذا الزمن اتفقوا أن لا نتفق)، أنتقل معكم ومع الشمس والقمر الدمشقيتين فى رحلتهما للقاهرة التى حاولتا فيها أن تلتقيا بالجد الذى يعيش فى الخليج إلا أن الزيارة رفضت لأن الحكام العرب لم يتفقوا بعد على صيغة تمنح هؤلاء حرية التنقل بين البلدان العربية. ويكفى أن يشدو الصغير أمام الميكروفون (متغربين فى العالمين شمال ويمين ودمع الحنين فى كل عين رعد وبرق)، لتنهمر دموع القلوب الطيبة التى آلمها أن ترى الجمال الصغير وهو يبحث عن مكان جديد يضمه مع أحبابه وأصدقائه حتى هؤلاء الذين رحلوا للسماء دون ذنب سوى أنهم ولدوا هنا على الأرض العربية، وما زالت لين ولارا تنتظرانهم، فبرغم ما تعلّمتاه من الحرب وقسوتها التى أضاعت وطنهما وأمانهما وفرقت عائلتهما فإن هناك كثيراً من المعانى لم تدركها بعد طفولتهما وما زالتا فى انتظار ما قد لا يعود.