- لم يكد الإمام على يسمع بقتل الخوارج للناس ظلماً وبغياً ومنهم عبدالله بن خباب بن الأرت وزوجته الحامل حتى يمم بجيشه شطر النهروان فحاربهم بصدق وأباد جمعهم، وحاز فضلاً قد بشره به رسول الله أنه سيقاتل الخوارج دون غيره من كبار الصحابة، فى حديث طويل رائع قد رويته من قبل فى بعض مقالاتى.
- هزم الخوارج وقتل قائدهم الذى بشر رسول الله الجيش الذى يقاتله ويصرعه، ولكن المشكلة الكبرى التى واجهت الإمام على أن أتباع الخوارج وفلولهم كانت تملأ البلدان، فقد اتفق ثلاثة منهم على قتل الإمام ومعاوية وعمرو بن العاص، وكانوا قد كفروهم من قبل، وجاء قرار هؤلاء الثلاثة المجرمين بعد أن تذكروا قتلى الخوارج فى نهروان، وكان من بين هؤلاء الثلاثة عبدالرحمن بن ملجم الذى اجتمعت لديه ثلاثة دوافع مجرمة لقتل الإمام:
- أولها هوس وفساد الفكر التكفيرى الذى تجرأ ليكفر واحداً من أعظم حواريى النبى وصهره، والذى شهد بدراً والهجرة وكل المواطن الصالحة، وذلك دون تأنيب ضمير أو شعور بالذنب، وهكذا الخوارج فى كل عصر، فقد رفض الإمام أن يكفر الخوارج ولكنهم كفروه، قال «إخواننا بغوا علينا».
- وثانيها الثأر الأعمى المجنون لخوارج نهروان القتلى والمهزومين، رغم أن الإمام لم يفعل معهم مثلما فعلوا بأمثال عبدالله بن خباب، فلم يتعقب الفار أو يجهز على الجريح ولم يبدأهم بحرب.
- وثالثها تقديم دم الإمام قرباناً لعشيقة عبدالرحمن بن ملجم التى رفضت الزواج منه حتى يقتل الإمام ثأراً لذويها الذين قتلوا فى النهروان، وأوصته أن يلتمس من الإمام غرة حتى لو قُتل بعدها.
- كان ابن ملجم صاحب ضمير ميت وقلب أعمى وفكر تكفيرى ضال، اجتمع كله فى صورة هذا الإنسان، نظر الإمام إلى من ضربه بالسيف المسموم ثم قال لابن ملجم: «أهو أنت، لطالما أحسنت إليك» فالتكفير فيه فظاظة وغلظة وعدم عرفان بالجميل.
- كان الإمام فى لحظات دنياه الأخيرة والموت يقترب منه فرأى الثأر فى عيون قومه وأسرته، فحرك العدل الساكن بداخله عقله والرحمة المستقرة فى قلبه لسانه، فإذا به يريد أن يحمى قاتله المجرم من الثأر الأعمى، فقال: «يا بنى عبدالمطلب لا أجدكم تخوضون فى دماء المسلمين تقولون قتل أمير المؤمنين، ألا لا يقتلن أحد إلا قاتلى» وقال للحسن: إن أنا مت من ضربته هذه فاضربه ضربه بضربة، ولا تمثل بالرجل، وذكرهم بحديث النبى «صلى الله عليه وسلم» إياكم والمثلة ولو أنها بالكلب العقور».
- لو لم تكن للتكفير سوءة سوى قتل الإمام لكفتهم عبر الزمان، ولو لم يكن للإمام من حسنة سوى هذا العدل والإنصاف حتى وهو ينزف دماً وألماً من الخيانة والغدر لكفته أيضاً، إنه يرحم قاتله وينصفه من نفسه، ويحجز عن أسرة وآل قاتله الأذى والنكال ويمنع عنهم العذاب والألم.
- لو لم تكن فى حياة الإمام سوى هذه اللوحة البديعة الممتزجة بألوان الرحمة والإنصاف والعدل لكفته.
- يا سيدى الإمام على.. عدلت مع الخوارج فظلموك، منعت عنهم حكم الكفر فكفروك، لم تحاربهم فحاربوك، لم تقتل فارهم ومدبرهم، ولم تتعقبهم فى وقت الحرب فتعقبوك فى وقت الصلاة، حاربت فى المواجهة فقتلوك فى الظلام غيلة وغدراً، أحسنت إلى ابن ملجم وإليهم فأساءوا إليك، سننت أعظم سنن العدل فى التعامل معهم فسنوا معك ومع المسلمين أسوأ سنن البغى والظلم.
- آه يا إمام لقد حرموا أمة الإسلام منك، كانوا المعول الأول لهدم الخلافة الراشدة وبداية الملك العضوض الذى ما لبث أن تحول إلى سلطنة جائرة ثم إلى حكم ديكتاتورى استبدادى ما زال قائماً بين العرب حتى الآن.
- هذا الحكم الديكتاتورى فى كل بلاد العرب تغذيه مجموعات التكفير والتفجير والاغتيال وتقويه، وتشرعن بقاءه دائماً، وتعطيه قبلات الحياة المتواصلة، لأن الناس يخيرون دوماً بين جماعات التكفير والتفجير أو الاستبداد والديكتاتورية، فيختارون الاستبداد دوماً، ويقعون فى النهاية صرعى للفريقين.
- لقد أعطى الخوارج قبلة الحياة لجيش الشام وساعدوه بطريق غير مباشر على النصر، وقتلوا واحداً من أعظم حواريى النبى وأعظم علماء وفلاسفة وعباقرة الصحابة، وهذا دأبهم، يريدون نصر السُّنة فيذبحونها ويدمرونها، يريدون نصرة الإسلام فيهزمونه ويصرفون الناس عنه، يتحدثون عن الشريعة فيبتعد الناس عنها.